ثقافةدنيا ودين

التسلسل التاريخي لقصة إبراهيم

للاستاذ الدكتور علاءااحمزاوى الاستاذ بجامعة المنيا

متابعة/ناصف ناصف

 بعد أن بشرت الملائكة إبراهيم وسارة بإسحق استمر إبراهيم في دعوة الناس إلى عبادة الله، ثم قام بزيارته الثالثة إلى مكة، وكانت بعد موت هاجر وزواج إسماعيل، ولم يحدثنا عنها القرآن، إنما ذكرها النبي، ولم يلتقِ فيها إبراهيم بإسماعيل، وإنما التقى بزوجته فسألها عن إسماعيل وعن حالهما ومعيشتهما، فشكت كثيرا وأظهرت ضيق الرزق وسوء المعيشة، فقال لها: أقرئي إسماعيل مني السلام وأبلغيه يغيّر عتبة بابه، فلما رجع إسماعيل وأخبرته زوجته بذلك علم أنه أبوه، وقد أمره أن يفارقها فطلقها، وليس في تصرفه ظلم لامرأة ابنه؛ وتصرُّفه يذكّرنا بموقف لعمر بن الخطاب مع ابنه عبدالله، حيث أمره أن يطلق امرأته، فقال: لا أطلقها؛ إني أحبها، فشكاه عمر إلى النبي، فقال النبي: يا عبدالله أطع أباك، فطلق عبد الله امرأته.

ــ وتصرّف إبراهيم وعمر يحُفظ ولا يقاس عليه، لأن إبراهيم نبي، وعمر أيّده نبي، وفي توجيههما مصلحة شرعية، فلا يجوز إطلاق العنان للآباء أن يصنعوا مع أبنائهم ما صنعه إبراهيم وعمر، فلا يجوز للوالدين أن يجبرا ابنهما على طلاق زوجته بدون سبب قوي؛ لأن الطلاق بدون مبرر معصية، ولا طاعة للوالدين في معصية لحديث “لَا طَاعَةَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ، إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوف”، فإذا أيقن الأب أن في طلاق زوجة ابنه مصلحة لابنه ولأولاده جاز له أن يأمره بطلاقها، كما ينبغي على الزوجة أن تتحلى بالصبر والتحمّل ولا تشكو ضيق العيش، ففي الحديث قال النبي لعائشة: “يا عائشة احفظي بيتك، فإن النساءَ يومَ القيامة أكثرُهنَّ حطبٌ للنار، قالت: ولمَ ذلك يا رسولَ الله؟ قال: لأنهنّ لا يصبرْنَ في الشدة، ولا يشكرْنَ في الرخاء، ويكفرْنَ النِّعَم”، والمقصود بالشدة الفقر وضيق العيش، فلا تشكو الزوجة ضيق العيش.

ــ ثم جاءت الزيارة الرابعة مماثلة للزيارة الثالثة إلا أن زوجة إسماعيل شكرت الله على المعيشة وسعة الرزق وأثنت على إسماعيل، فسألها عن طعامهما وشرابهما فقالت: اللحم والماء، فقال: “اللهم بارك لهم في اللحم والماء”، وهنا قال النبي: “ولو كان لهم حَبّ لدعا لهم فيه، فهما لا يخلو عليهما أحدٌ بغير مكة إلا لم يوافقاه” أي لو كان لهما حبوب كالقمح والبر والذرة يُصنَع منها الخبز لدعا لهم بالبركة فيها، وإنّ الاقتصار على اللحم والماء لا يتوافق مع صحة البدن إلاّ في مكة بفضل هذه الدعوة المباركة، ثم طلب إبراهيم منها أن تبلغ إسماعيل السلام وأن يثبّت عتبة بابه، فلما رجع وأبلغته علم أنه أبوه وأنه يوصيه أن يتمسك بها.

ــ ثم جاءت الزيارة الخامسة لإبراهيم إلى مكة بعد مدة طويلة، وقد التقى فيها إسماعيل قُرب زَمْزَمَ، فسلم عليه وقال له: يَا إِسْمَاعِيلُ إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِى بِأَمْر، قَالَ: فَاصْنَعْ مَا أَمَرَكَ رَبُّكَ، قَالَ: وَتُعِينُنِى؟ قَالَ: وَأُعِينُكَ، قَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِى أَنْ أَبْنِىَ هَا هُنَا بَيْتًا، وَأَشَارَ إِلَى مكان الكعبة، وهنا لفتة طيبة تتمثل في أن إبراهيم لا يزال مصرا على إعطاء إسماعيل الحرية في اتخاذ قراره دون تأثير منه، والمقصود بالبناء رفع القواعد؛ لأن الكعبة بناها آدم أو الملائكة، ثم ضاع أثر البناء بمرور الزمن، قال تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ}، ولم يقل (يضع) القواعد؛ لأن الوضع يعني البناء الجديد، إنما الرفع يكون لبناء موجود بالفعل، وعبّر القرآن بالفعل المضارع؛ ليستحضر المسلمون دائما عملية الرفع من إبراهيم وإسماعيل، وكان إِسْمَاعِيل يأتي بالحِجارة، وإِبْرَاهِيمُ يَبْنِى، حَتَّى إِذَا ارْتَفَعَ الْبِنَاءُ جَاءَ إسماعيلُ بِحَجَرِ فَوَضَعَهُ لأبيه، فَقَامَ عَلَيْهِ وَهْوَ يَبْنِى، وَإِسْمَاعِيلُ يُنَاوِلُه الْحِجَارَة، وهو ما يعرف الآن بمقام إبراهيم الذي أمر الله بالصلاة عنده فقال تعالى: {وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى}.

ــ بعد أن انتهيا من البناء طافا بالبيت داعين {ربَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}، فيجب على المسلم أن يستنّ بإبراهيم، فيدعو الله بالقبول عقب كل عمل صالح، ومن ناحية أخرى فإن ما قام به إسماعيل مع أبيه يمثل نموذجا للتعاون المثمر على المستوى الأسري، واستنانا بطواف إبراهيم وإسماعيل صار الطواف شعيرة من شعائر الحج والعمرة، وهو عبادة كالصلاة إلا أنه يباح فيه الكلام.

ــ ثم دعا إبراهيم لمكة بالأمن والأمان، {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَٰذَا الْبَلَدَ آمِنًا}، وهذه الدعوة متممة لدعوته الأولى {رَبِّ اجْعَلْ هَٰذَا بَلَدًا آمِنًا}، فالأولى دعا بها ولم تكن مكة يومئذ بلدا بل كانت مكانا موحشا، وفي الثانية كانت مكة عامرة بالناس وتحتاج إلى الأمن حتى يأتيها الحجاج والزوار دون خوف، وهذه الدعوة تدل على أن نعمة الأمن من أعظم النعم التي تعين الإنسان على قضاء أمور الدين والدنيا.

ــ ثم دعا إبراهيم ربه قائلا: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الْأَصْنَامَ}، أي أبعد عني وعن أبنائي عبادة الأصنام، فإنها كفر وشرك، والمراد ببنيه إسماعيل وإسحق، والمثنى جمع، وقيل: أراد ذريتهما حتى عيسى ومحمد عليهم جميعا السلام، وقيل: إنه تزوج امرأتين بعد سارة وأنجب منهما أحد عشر ابنا، واستجيب في بعضهم.

ــ ثم أمر الله إبراهيم أن ينادي في الناس بالحج، فقال: {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ}، الآذان هو النداء بصوت عال، و{رجالا} جمع راجل، وهو الماشي على رجليه في مقابل الراكب، و{ضامر} وصف للبعير المنهك من السفر الطويل، والفجّ العميق: المكان البعيد، وقوله {يأتوك} فيه تكريم لإبراهيم؛ فمعناه أن الحُجّاج يأتون إليه مع أنهم قادمون إلى الكعبة، وأعاد الضمير في {يأتين) على الضوامر تكريما لها لحملها الحُجّاج إلى الحج، فقال إبراهيم: وما يبلغ صوتي؟ فقال ربنا: عليك الآذان وعلينا البلاغ، فصعد الجبل قائلا: “أيها الناس إن الله بنى لكم بيتا فحجّوه”، وقيل: إن الآية خطاب للنبي محمد، وقد روي عنه قوله: “أيها الناس قد فُرِض عليكم الحج فحجوا”، ولا تعارض بين الرأيين، وبهذا أتــمّ إبراهيم رسالته بعدما نجح في اختبارات صعبة، فاستحق وصف الله له بقوله تعالى: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّىٰ}.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى