مقالات

التطرُّف الديني والعقائد الدينية

التطرُّف الديني والعقائد الدينية

محمود السنكري 

يبنى التطرُّف الديني على تعصُّب الفرد أو الجماعة لدينٍ أو مذهبٍ أو طائفة، وقد عرَفَت الأديانُ السماوية أو الوضعية على اختلافها نوعًا من أنواع التعصُّب والتطرُّف، دون أن يكونَ ذاك التطرُّفُ عائدًا بالضرورة إلى نصوص أو تعاليمَ فيها؛ بل ناشئًا عن فهمٍ خاصٍّ وسياقٍ تاريخي أو سياسي يوظِّف الخطابَ الديني لتحقيق مآربَ مختلفة ومصالح معيَّنة.

ومن نماذج التطرُّف القائم على عقيدة دينية ما يأتي:

الجماعات اليهودية المتطرِّفة:

تكوَّنت أُولى الجماعات المتطرِّفة المستندة إلى أصولية دينية يهودية من طائفة (الزيلوت) المتشدِّدة على يد يهوذا الجَليلي في عام 66 قبل الميلاد، وأُطلق على أعضائها اسم (سيكاري) نسبةً إلى سلاح السيف القصير (سيكا) الذي ينفِّذون به عمليات القتل والاغتيال، التي طالت موظفي الحكومة الرومانية بدايةً، وامتدَّت لتطولَ معتنقي الديانة اليهودية المخالفين لهم في المعتقد والتوجُّه. وعُرفت هذه الجماعةُ باستخدامها أساليبَ مبتكرةً في الإرهاب والقتل؛ كتسميم مياه الشُّرب، وحرق المنازل وهدمها. ولعلَّ اغتيال رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحاق رابين في عام 1995م على يد المتطرف «إيجال عامير» من المظاهر المعاصرة لفكر هذه الجماعة وأساليبها، التي برزت أيضًا في العصر الراهن على يد الجماعات الدينية المتطرِّفة والعصابات القومية التي ارتكبت مجارزَ عديدة بحقِّ الشعب الفلسطيني الأعزل على امتداد عقود طويلة.

الجماعات المسيحية المتطرفة:

مع أن الديانة المسيحية كحال الديانات السماوية جميعًا تدعو إلى السلام والمحبَّة والرحمة، فقد استغلَّت فئاتٌ مختلفة تعاليمَ السيِّد المسيح عليه السلام في أزمان متعاقبة لتسويغ استخدام العنف! فقد استخدم الرومانُ أساليب العنف والترهيب لفرض عقائدهم المسيحية، ووَفقَ هذا النهج يمكن فهمُ ظاهرة محاكم التفتيش، والحروب الصليبية، والحروب الدينية التي استعرَت لعقود وسنوات طويلة، وذهب ضحيَّتَها ملايينُ في مناطقَ شتَّى من العالم ومن المسيحيين أنفسهم. ومن الأمثلة البارزة استهدافُ طائفة (الكاثار) المسيحية، وقتل أكثرَ من عشرين ألفًا من أتباعها على يد الحملة الصليبية الألبيجينية التي لم ترأف بكاثوليكيِّي المدينة ذاتها! واشتَهرت عبارةٌ لقائد الحملة النائب البابوي، حين أمر بذبح جميع سكان المدينة، وعندما سُئل عن طريقة التمييز بين سكَّان المدينة من الكاثوليك والكاثار؟! فأجاب: «اقتُلوهم جميعًا ودَعُوا الربَّ يصنِّفهم»!

وتأتي جماعةُ (فرسان الهيكل) لتكونَ أشهرَ الجماعات المسيحية المتطرِّفة في القرون الوسطى، وقد مثَّلت نخبةً عسكرية مارست أعمالًا إجرامية تحت شعار «حماية المسيحية»، فيما يُعَدُّ (جيش الربِّ) الأوغندي الذي أُسِّس عام 1986م، لإقامة نظام ديني مسيحي مبني على تشريعات الكتاب المقدَّس، حالةً معاصرة لهذا النهج المتطرِّف.

الجماعات الإسلامية المتطرِّفة: 

ظهر التطرُّفُ المستند إلى التفسير الديني الإسلامي على يد جماعةِ (الخوارج)، الذين جسَّدوا تطرفهم الفكري وتصوُّرهم الخاصَّ المبني على فهم خاطئ للإسلام، فكفَّروا من لا يوافقُ عقيدتهم. وتبعَهُم فرقة (القرامطة) المنحرفة عن تعاليم الإسلام، التي بثَّت الرعبَ والفزع بين الناس، وبلغ بها التطرُّف أن انتزعَت الحجرَ الأسود من بيت الله الحرام بمكَّة المكرَّمة. ومن الفِرق التي اتخذت التطرُّفَ الفكري مذهبًا فرقةُ (المعتزلة) التي حملت الناسَ على تبنِّي الفكر المعتزلي عقيدةً للدولة بتأثيرهم في الخليفة المأمون، فجرى امتحانُ الناس على هذه العقيدة حتى سُجن وهلك نفرٌ كثير من صفوة العلماء الذين رفضوا هذا المعتقَد، ولا سيَّما في قضية «خَلق القرآن».

وتُعَدُّ حركاتٌ كثيرة في عصرنا الراهن امتدادًا فكريًّا ومنهجيًّا لطوائف المتطرِّفين التاريخيين، فنجد تنظيمَي (القاعدة) و(داعش) من الأمثلة السُّنية البارزة لمنهج الخوارج، وفي الطرف الآخر كانت (الجماعات المسلَّحة الشيعية) و(حزب الله الإرهابي) و(جماعة الحوثي) امتدادًا للتطرُّف المذهبي الطائفي الذي أذكى نارَ الاحتراب الديني والنزاع الطائفي.

زر الذهاب إلى الأعلى