محافظات

قـــراءة في آيات الحج والعمرة

 

للاستاذالدكتورعلاء الحمزاوى بجامعة المنيا

متابعة ناصف ناصف

ــ الحجّ في اللغة القصد، وشرعا قصْد البيت الحرام لأداء الشعيرة التي فرضها الله على المسلم المستطيع مرة في العمر، فرضه الله سنة 9هــ، وهو أحد أركان الإسلام وهو الركن الوحيد الذي سميت به سورة قرآنية هي سورة الحج لبيان منزلته، فهو كالإسلام يجبّ ما قبله من الذنوب، أما العمرة فهي زيارة بيت الله الحرام لأداء المناسك في أي وقت من العام، وسميت عمرة؛ لأنها تهدف إلى عمارة المكان، والمراد عمارة البيت الحرام بالمعتمرين على مدار العام، وهي سنة مؤكدة تصل إلى حـدّ الواجب للمستطيع على خلاف بين العلماء، وهي مكفّرة لذنوب العام السابق، ولكل من الحج والعمرة شروط وأحكام مرجعها قول النبي: “خذوا عني مناسككم”، وهي مفصلة في كتب الفقه.
ــ وقد ثبت أن النبي حج مرة واحدة هي حِجة الوداع 10هــ، ولم يحج سنة 9هــ لانشغاله باستقبال الوفود، وفي ذلك رخصة للمسلمين في وجوب الحج على التراخي، وكان حجّ النبي مقرونا بعمرة؛ لأنه ساق الهَدْي معه، واعتمر أربع عمرات: عمرة الحديبية 6هــ وسميت بذلك؛ لأن النبي منعته قريش من دخول مكة للاعتمار أقام بالحديبية خارج حدود حدود الحرم، وكان النبي إذا حانت الصلاة انتقل إلى أرض الحرم للصلاة، ولم تكتمل تلك العمرة، فذبح النبي الهدي وتحلّل هو وأصحابه ورجعوا إلى المدينة، ثم اعتمر في العام التالي 7هـ وسُميت عمرة القضاء قضاء عن عمرة الحديبية، ثم عمرة الجِعرانة 8هــ، وسميت بذلك؛ لأن النبي أحرم من الجعرانة بعد هزيمة المشركين في حُنين، ثم عمرة الوداع لاقترانها بحجة الوداع، وكانت عمراته في ذي القعدة تعظيما للشهر الذي أهانه المشركون من قبلُ.
ــ وقد تحدث القرآن عن الحج والعمرة في عدة مواضع، لعل أظهرها في وجوب الحج هو قوله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ. فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ}، حمل هذا الخطاب ثلاث رسائل: رسالة وصْف للبيت الحرام، ورسالة إيمان بالحج وأمر به للمستطيع، ورسالة تهديد للكفار، في الرسالة الأولى وصف الله البيت الحرام بخمس صفات:
ــ الصفة الأولى: الأقدمية والأسبقية في الوجود، فهو أول بيت بُني في الأرض بنته الملائكة أو آدم وأعاد بناءه إبراهيم وإسماعيل، وقد وضعه الله للناس لعبادتهم ونُسُكِهِمْ يطوفون به ويستقبلونه في صلاتهم، سُئل النبي عن أول مسجد وُضع في الأرض، فقال: “المسجد الحرام، ثم المسجد الأقصى”، وذكر أن المدة بينهما أربعون سنة، ثم قال للسائل: “والأرض لك مسجد، حيثما أدركتك الصلاة فصلِّ”، أي أن الأرض كلها طاهرة صالحة للصلاة في أي موضع منها، وهذه من فضائل النبي، وكلمة {الناس} توحي بأن البيت الحرام هو لجميع الناس في إشارة إلى أن الأصل فيهم الإيمان بالله، وأن كُفْر بعضهم خروج عن الأصل يستوجب العقاب، ثم بيّن الخطاب أن البيت الحرام بمكة المكرّمة التي أسماها الله {بَكَّــةَ}، وقيل: {بكة} اسم لمنطقة البيت الحرام، وهي من الفعل بكّ: زحم، يقال: بـكّ الرجل صاحبه: زاحمه، ويقال: تباكّ القوم: تزاحموا، سُمِّيت مكة بذلك؛ لأن الناس يبُكُّون أو يتباكّون عندها أي يزدحمون.
ــ والصفة الثانية: البركة بكثرة الخير فيه، فهو مبارك، ومن بركته أنه المكان الوحيد الذي يصلح أن يعيش الناس فيه على اللحم والماء استجابة لدعوة سيدنا إبراهيم، ومن البركة مضاعفة الثواب للعمل الصالح، الحسنة بمائة ألف حسنة، فقد صح أن الصلاة فيه بمائة ألف صلاة، والحجّ إليه يمحو الذنوب جميعا، ولهذه الخصوصيةِ السيئةُ فيه مضاعفةٌ، فمجرد التفكير في الذنب بالبيت الحرام يستوجب العذاب، قال تعالى: {ومن يُرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم}، فما بالك بمن يرتكب المعاصي فيه؟!
ــ والصفة الثالثة: الهداية، فهو {هدى للعالمين}، وقال: {للعالمين}؛ لأن الناس في كل زمان عالَم، والجمع (عالَمون)، والمقصود أن البيت الحرام هادٍ للناس جميعا منذ آدم إلى يوم القيامة، وعبّر بالمصدر للمبالغة، ما يدل على مكانة البيت الحرام في هداية الناس، لكن هذه الهداية مرتبطة بعقيدة العبد، فالبيت الحرام ليس هاديا في ذاته، بل هو هادٍ إلى الله بفضل الله، فالمشركون كانوا يطوفون بالبيت الحرام، ولم يقبل منهم؛ لأنهم لم يطوفوا لله، أي لم تكن عبادتهم في الطواف امتثالا لأمر الله.
ــ والصفة الرابعة: أن به مَقام إبراهيم، وهو آية على قدم البيت وأن إبراهيم أعاد بناءه، وأنه أبو المسلمين، وهو يربط المسلمين بإبراهيم إلى يوم القيامة؛ لذا أمرَنا الله أن نصلّي عنده، قال تعالى: {وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّى}، وهذا الأمر الإلهي نزل استجابة لرغبة سيدنا عمر أو توافقا مع رغبته؛ حيث قال للنبي: ليتنا نتخذ من مقام إبراهيم مصلَّى، فنزلت الآية، فكانت من الآيات التي وافق فيها الوحي عمر.
ــ والصفة الخامسة للبيت الحرام هي الأمــن للناس فيه، قال تعالى: {وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً}، وهي استجابة لدعوة إبراهيم (رب اجعل هذا البيت آمنا)، وما أعظم صفة الأمــن للناس! فهي ثلث متاع الدنيا، ففي الحديث “مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ، مُعَافًى فِي جَسَدِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا”، و(سِربه) أي في نَفْسه، والسِّرْب: الجماعة، والمراد أهله، والسَرْب: المسلك والطريق، والمراد وطنه، والمعافاة الصحة، والقوت الطعام، وهذه الصفات الثلاث تقتضي جيشا يؤمّن المواطن، واقتصاد يغنيه، وعلما يسهم في معافاته، ويُستنبط من ذلك أن كل دولة تمتلك جيشا رادعا واقتصادا زاهرا وعلما نافعا تمتلك قرارها، وأن الأمة التي لا تمتلك أمنها ولا دواءها ولا غذاءها لا تمتلك قرارها.
ــ وجدير بالذكر أن مصرنا الحبيبة تشترك مع البيت الحرام في صفتين من الصفات الخمس، وهما “الخير والأمن”، ففي القرآن: {اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم}، و{ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين}، فمصر تمتلك جيشا قويا يحميها، والخير فيها إلى يوم القيامة، وللحديث بقية.

زر الذهاب إلى الأعلى