مقالات

قـيـمـــة الصناعة في الإسلام:

بقلم الدكتور علاءالحمزاوى الاستاذبجامعة المنيا

 

نقله ناصف ناصف
ــ ديننا يدعو إلى إعمار الأرض وتقدم الأمم وبناء الحضارات، قال تعالى: {هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا}، ففي هذا التوجيه الإلهي تكليف للإنسان بإعمار الأرض واستثمار خيراتها في تقدم المجتمع، وأعلى مظاهر السعي لإعمار الأرض “الصناعة”، فهي أهمّ مرتكزات بناء الوطن والارتقاء بالمجتمع، ولا يمكن لمجتمع أن يتقدم بدون الصناعة؛ لذا أشاد القرآن بقيمتها، فجعل إحدى سوره باسم {الحديد}؛ ليلفت الانتباه إلى أهمية هذا المعدن في إقامة الصناعات التي تنهض عليها الأمم، وحـثّ ربنا على الصناعة والتصنيع، فقال تعالى: {وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ}، السرابيل جمع سربال، وهى كل ما يلبسه الناس للتستر والوقاية كالقمصان والثياب وغيرها ليتقوا ضرر الحر والبرد، ولم يذكر البرد اكتفاء بالحر، وبعض السرابيل دروع يلبسها المحاربون ليتقوا بها ضربات العدو في حالة الحرب، هذه السرابيل لم تنزل من السماء بل هي من صنع الإنسان، فقوله: {وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ} أي أقدركم على صناعتها.
ــ ولإبراز قيمة الصناعة في المجتمع أمر الله بعض أنبيائه بتعليم بعض الصناعات، ولعل أول صناعة في التاريخ سجلها القرآن صناعة سفينة نوح في وقت لا توجد فيه سفن، وقد تمت بأمر إلهي مباشر؛ لتكون سبب نجاة المؤمنين لمَّا أراد الله إهلاك الكافرين، قال تعالى: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} وقوله: {بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا} يعني أنها صُنِعت بعناية إلهية، كما أن انطلاقها كان بعناية إلهية؛ حيث قال: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا}، وقد صُنِعت من الخشب والمسامير، قال تعالى: {وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ} فالدُّسُر مسامير لربط الألواح، وهذا التوجيه الإلهي لنوح يحمل إشارات كثيرة، فهو يشير إلى أن التقدم الصناعي هو مصدر القوة الأول في ردع العدوان، وهو سبيل النجاة من التخلّف وهو مصدر الثراء وبناء الحضارة، ويشير إلى أن التخطيط للمستقبل والحرص على الابتكار ضرورة حتمية، فالتقدم لا يتحقق إلا بالإبداع والتفكير المستقبلي، كما يشير إلى ضرورة الأخذ بالأسباب، فكان ممكنا أنْ يُنزلَ الله تلك السفينة من ‏السماء أو يحمي نوحا والمؤمنين بأي وسيلة، لكن الله أمره أن يأخذ بالأسباب لتكون سنة إلهية في الأرض.
ــ ومن الأنبياء الذين امتلكوا مهارات الصناعة سيدنا داود، حيث علّمه الله مبادئ الصناعة ‏العسكرية، فعلّمه صناعة الدروع والسيوف وآلات الحرب الحامية من الخطر، فكانَ له قدَمُ السَّبْق في ذلك، قال تعالى: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُم مِّن بَأْسِكُمْ}، اللَبوس كل ما يُلبَس للحرب، والمراد: الدروع للحماية وصدِّ العدوان، وأكد ربنا ذلك في قوله: {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ}، ومعنى {أَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} طوعناه له فصيّرناه لينا يشكّله كيفما يشاء، و{اعْمَلْ سَابِغَاتٍ} أي اصنع دروعا من الحديد تامة مكتملة، و{قَدِّرْ فِي السَّرْدِ}، {السرد} حِلَق الدروع، والمراد: أحكم صناعتها بإتقان، وكان داود إذا أتـمَّ صنعَ درعٍ باعَهَا، فتصدق بثلثها واشترَى بثلثها ما يكفيه وأهله، وأمسك الثلث ليتصدق به في يوم لا يصنع فيه دروعا؛ حتى يستمر خيره للمجتمع، واللافت للنظر أن داود كان يقتات من تلك الصناعة حتى مدحه النبي بقوله: “كان داود لا يأكل إلّا مِن عملِ يده”، ومع أن كل الأنبياء كانوا يأكلون من عمل أيديهم اختُصَّ داود بالمدح؛ لأن أكْــل داود من عمل يده لَمْ يَكُنْ عن احتياج فقد كان مَلِكا، وإِنَّمَا ابْتَغَى بعمله الْأَكْل الْأَفْضل له، فأطيب الكسب للمرء ما كان من عمل يده، وفي التوجيه الإلهي لداود حـثّ على الأخذ بالأسباب وحـثٌّ على إتقان الصنعة، فالإتقان والجودة والتميز من أهمِّ الصفات التي يجب أنْ يتحلَّى بهَا الصانع وتتسم بها الصنعة، وقد أكــد ربنا على صفة الإتقان في الصنعة، فوصف نفسه بها فقال تعالى: {صُنْعَ ٱللَّهِ ٱلَّذِىٓ أَتْقَنَ كُلَّ شَىْءٍ}، أي خلق كلَّ شيء بإتقان معجز، فأفضل التصنيع ما كان متقنا حتى لو كانت الصنعة تربية أخلاقية، فقد مدح الله موسى بقوله: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي}، وحـثّ النبي على الإتقان في العمل فقال: “إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه”.
ــ كذلك برزت الصناعة عند ذي القرنين رجل العدل والحق والسلام، وكان مثالا عاليا في تفوق الصناعة؛ إذ تمكَّن من بناء ســدّ عظيم يحمي الناس من شـرّ قبيلتي يأجوج مأجوج، وذكر القرآن كيفية بنائه في قوله: {آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا}، طلب من الناس أن يشاركوه صناعة السد؛ ليبثّ فيهم روح التعاون على البر والتقوى وليشعرهم أنهم أصحاب السدّ، فكانوا يناولونه قِطَع الحديد ليضعها بين الجبلين {الصدفين} حتى ساوى بينهما في الارتفاع، ثم صبَّ عليه نحاسا منصهرا {قطرا}، فكان في غاية القوة {فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ} يصعدوه، {وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا} خرقا، و(اسطاع} أسهل نطقا من (استطاع)، جاءا هكذا ليناسبا الصعود والخرق، فالصعود أقــل صعوبة من الخرق.
ـــ وقد عرف العهد النبوي بعض الصناعات مثل: النسج والبناء والخياطة والنجارة والحدادة والدباغة والطاقة، وعُرِف بعض الصحابة بصناعات معينة، فكان سلمان الفارسي يعمل في صناعة النسيج، وكان سعد بن أبي وقاصٍ يبرِي النبل، وكان عثمان بن طلحة خياطا، واهتم سيدنا عُمر بالتصنيع الحربي ولاسيما المنجنيق، وكان أول منجنيق تمَّ تصنيعه في الإسلام أثناء حصار الطائف سنة8هـ، واشتهرتْ صناعة السفن في عهد سيدنا عثمان، فهو أول من أمر بتشييد دار لصناعتها حتى كانت نواة الأسطول ‏الإسلامي في الفتوحات البحرية، ورُوِي أن تميما الداريّ حمَل من الشام إلى المدينة قناديل وزيتًا وفتيلا، فلما وصل المدينة صبّ الزيت في القناديل ووضع فيها الفتيل وعلّقها في الطرقات، فلما غَرَبت الشمس أنارها، فخرج النبي إلى المسجد فوجد القناديل مضيئة، فقال: مَن فعل هذا؟ قالوا: تميم الداري، فقال: نوَّرت الإسلام! نوَّر الله عليك في الدنيا والآخرة، أمَا إنه لو كانت لي ابنة لزوَّجْتُكَها”، فكانت تلك مكافأة عظيمة لبطل من أبطال الإنتاج في دولة الإسلام، ما حظي بها أحد كما حظي بها تميم الداريّ، فنحن بحاجة إلى الإبداع والابتكار والإتقان في الصنعة مع التحفيز والتشجيع المعنوي والمادي، فالنفس البشرية جُبِلت على حب المدح والتقدير، وكلما زيد في الثناء زيد في العطاء والإتقان.

زر الذهاب إلى الأعلى