الأدب والشعر

الحافلة

د/ منى ياقوت تكتب .

يستقل الحافلة من المحطة المواجهة لذلك المحل التجاري الذي يعمل به يوميًا في الفترة المسائية، منهك هو لكن مجرد شعوره أن ما يفصله عن سريره الدافئ لا يزيد عن ثلاثين دقيقة يشعره بالانتعاش، يجلس إلى أقرب مقعد مجاورًا للنافذة كما يحب منذ طفولته مستمتعًا برؤية كل ما تلتقطه عيناه خارج الحافلة، يلتقط أنفاسه بهدوء بينما يلاحظ أنها توقفت أكثر من اللازم، ربما يتأخر عن وجبة العشاء الشهية التي تدخرها والدته ككل يوم، لم يذق في مثل حلاوة ما تصنعه، لم تكن طاهية شديدة المهارة لكنها كانت تصنع كل شيء بحب، تضيف إلى الطعام نكهة روحها العذبة، وتطهوه على نارٍ يماثل هدوؤها تلك الابتسامة التي تزين وجهها الطيب، كانت جميلة فصار كل ما تفعله مثلها.انتبه إلى سيدة تجلس في المقعد المواجه لمقعده، لم يلحظ وجودها قبلًا، كان وجهها جميلًا، وثوبها الفضفاض بألوانه الداكنة وحجابها البسيط الذي غافلته بضع شعيرات بيضاء فأطلت من جانبيه لوحة فنية تحمل عبق الجدات، انجذب إليها، لفت انتباهه نظارتها الطبية الغليظة بلونها الداكن كملابسها، وسألها: ألم تتأخر الحافلة عن موعدها؟كانت تنظر أمامها، لم توجه بصرها إليه، لكن ابتسامة بشوش تسللت إلى ملامحها الهادئة بينما تجيبه: لم تتأخر يا ولدي، فقط نحن من نتعجل، لكن كل شيء سيأتي حتمًا في ميعاده.انتهت عبارتها بينما بدأت الحافلة في التحرك ببطء، ثم وصلت تدريجيًا إلى السرعة المعتادة، بينما ذاب اهتمامه بكل ما لاح خارج الحافلة، جال ببصره في المكان.في المقعد على يمينه كانت سيدة تضع بضع أكياس بلاستيكية ما بين ساقيها، تقبض بيدها على محفظة صغيرة ربما كانت تحمل كل ما تملك من نقود، تنظر من النافذة إلى الخارج بشرود، يقابلها شاب وسيم الملامح ممسك بدفاتره، يبدو أنه طالب ربما في الجامعة.عاد ببصره سريعًا إلى رفيقة جلسته، ابتسم قائلًا:أنا لا أتعجل سوى وجبة شهية من يد أمي. أجابته بنفس الابتسامة: حفظها الله لك، حفظك لها.مرت المحطات واحدة تلو الأخرى، الناس تستقل الحافلة بينما يغادرها آخرون كل في وجهته، دون أن تحرك ساكنًا أو تبدي استعدادها للنزول، فسألها عن وجهتها، أكدت أنها المحطة القادمة، وكانت محطته أيضًا.لاحت له لافتة تحمل اسم المنطقة من بعيد بينما يشعر أنه وصل أخيرًا، همّ بالتحرك لكنها سبقته إلى النهوض ببطء وتردد وهي تتوكأ على عصا حديدية متوسطة السمك بيد، وباليد الأخرى تتحسس مقعدها، لقد كانت تعاني عجزًا في بصرها.نهض سريعًا ليأخذ بيدها، فتشبثت بها ثم ربتت على يده بحنان: لقد كان حنونًا مثلك، لكنه رحل…..وبابتسامة حزينة أضافت: لا تتخل عن وجبة أمك يا ولدي، فلن يعوضها طعام مهما كان ثمنه….ثم أفلتت يده، وهي تشق طريقها بحرص وصولًا إلى باب الحافلة.

زر الذهاب إلى الأعلى