مقالات

كوميديا البخلاء !بقلم د. / محمد ابراهيم نصار مدير عام الارشاد الدينى ونشر الدعوة بوزارة الاوقاف

كوميديا البخلاء !بقلم د. / محمد ابراهيم نصار مدير عام الارشاد الدينى ونشر الدعوة بوزارة الاوقاف

مدير عام الارشاد الدينى ونشر الدعوة بوزارة الاوقاف دكتوراة فى الفلسفة الاسلامية ومقارنة الاديان


لعل أشهر من ألف في البخل ، ووضع فيه كتابًا مستقلًا هو “الجاحظ” في كتابه الموسوم بـــ”البخلاء”،
واللافت للانتباه أنك عندما تقرأ كتابه هذا تشعر وكأنك أمام كوميديا فُكاهية ساخرة من طراز نادر، فأنت تتلقف ما أورده من قصص وأخبار: أحيانًا بالضحك والابتسامة، وأحيانًا أخري بالاستغراب والاستهجان،
ولا عجب في ذلك فإن أحوال البخلاء تشف عن ذلك كله، ذلك لأن تصرفات البخلاء عجيبة، وأحوالهم غريبة، لا يمكن تصور تناولها إلا في أسلوب كوميدي ساخر، على نحو ما فعل أيضًا الأديب الفرنسي والكوميدي المسرحي (بوكلان موليير) في مسرحيته”البخلاء”، وهو المتوفى بعد الجاحظ بحوالي ثمانية قرون.
وإن من يشاهد المسلسل الدرامي المصري”البخيل وأنا”، والصورة الحية للفن اللاذع التي قدمها الفنان المصري”فريد شوقي” ليشاهد ما يثير الدهشة وأحياناً الضحك، إلا أنها تخفي خلفها آلامًا من الحزن، وأنهاراً من الدموع، ولا نعتقد أن ثمة طريقة أفضل من هذه الطريقة الكوميدية الكاريكاتيرية الساخرة، بما فيها من براعة وقوة لمحاربة هذه الظاهرة السلبية وما تولد منها من مشاكل أسرية ومجتمعية، لأن حكايات البخلاء قديمًا كانت تصب في البخل المادي فحسب،
بل الجدير بالذكر أن البخيل في المال بخيل في كل شيء حتى في العواطف والمشاعر والأحاسيس وغيرها من الأمور التي يحتاج الإنسان أن يصدرها لغيره من المحيطين به.
بل يصل البخل بصاحبه إلى أن يبخل على نفسه، بحيث يمرض فلا يتداوى، فالبخيل أشد الناس عناء وشقاء، يكدح في جمع المال والزاد ولا يستمتع به، وسرعان ما يتركه لورثة طالما حرمهم منه، فيعيش في الدنيا فقيراً وفي الآخرة يحاسب أشد الحساب،
ولا حرج عنده إطلاقًا أن يُنعت بكونه بخيلًا، مستخدمًا في ذلك منهج المدرسة السفسطائية في إيراد الحجج والبراهين على الفكرة ونقيضها في ذات الوقت،
ومن ذلك ما أورده الجاحظ: قلت لأحدهم مرة : قد رضيت بأن يقال : عبد الله بخيل؟ قال نعم: لا أعدمني الله هذا الاسم!
قلت: وكيف ؟
قال : لا يقال فلان بخيل إلا وهو ذو مال. فسلم إليَّ المال، وادعُني بأي اسم شئت!
قلت له : ولا يقال أيضاً: فلان سخي إلا وهو ذو مال. فقد جمع هذا الاسم الحمد والمال، واسم البخل يجمع المال والذم. فقد أخذت أخسهما وأوضعهما.
قال ليَّ: بينهما فرق.
قلت له : فهاته.
قال: في قولهم: بخيل تثبيت لإقامة المال في ملكه. وفي قولهم: سخي إخبار عن خروج المال من ملكه. واسم البخيل اسم فيه حفظ وذم، واسم السخي اسم فيه تضييع وحمد. والمال زاهر نافع مكرم لأهله معز. والحمد ريح وسخرية واستماعك له ضعف وقلة مروءة. وما أقل غناء الحمد والله عنه إذا جاع بطنه، وعرى جلده، وضاع عياله، وشمت به من كان يحسده!!
فالبخل إذن سلوك نفسي فوضوي لا عقلاني ،
ولعل هذا هو ما جعل الجاحظ وقد أورد قصصه دون رابط عقلي متطور في كتابه، لمسة من هنا، ولمسة من هناك ، موقف مع النفس، وآخر مع الصديق، وثالث مع الأقربين، رسالة من هذا وجواب من ذاك، لتكتمل لدى القارئ الصورة الواضحة عن ذلك الخلق الرديء المشتبك في أعماق النفس الإنسانية في نهاية الكتاب.
فتشعر مع هذه النهاية أن البخل هو الذي أفسد أذهانهم، وأغشى أبصارهم، وطمس على قلوبهم، ونقض اعتدالهم،
فهم بذلك قد عاندوا الحق، واحتجوا مع شدة عقولهم بما أجمعت الأمة عن تقبيحه، وتتعجب كيف أنهم لا يفطنون إلى ظاهر قبحه، وشناعة اسمه، وسوء أثره على أهله؟

زر الذهاب إلى الأعلى