عاجل

كيف فقدت القُصير أهرامها المعدنية"

كيف فقدت القُصير أهرامها المعدنية"

كيف فقدت القُصير أهرامها المعدنية”

كتب/حنان عبدالله هشي

تمايلت تلك الأبراج الهرمية الشامخة في الأفق كأنها أهرامات الجيزة التي تزين أرض مصر، ، كانت تزيد عددًا وتألقًا، وكأنها تشكّل معلمًا فريدًا من معالم مدينة القصير، لا يقل أهمية عن أهرامات الجيزة بالنسبة لمصر والعالم. كانت تلك الأبراج ترتفع بجبروتها وسط الشاطئ، وكأنها تحتضن المدينة بحنان الأم، تجمع بين عظمة التاريخ وأمل المستقبل.

هذا علي لسان مؤرخ القصير الدكتور طه حسين الجوهرى

كيف فقدت القُصير أهرامها المعدنية"
كيف فقدت القُصير أهرامها المعدنية”

تصوّرت تلك الأبراج وقد انتهى زمنها كأعمدة إنتاج وصارت عصبًا جديدًا لروح السياحة، إذ تخيلتها وقد أُعيد توظيفها لتصبح نقطة جذب للسياح من كافة أنحاء العالم. في خيالي، أصبحت هذه الأبراج مثل “تلفريك جونية” في لبنان، معلمًا من معالم القصير، يرمز إلى التفرد والجمال الطبيعي.

وفي الوقت الذي كان فيه تلفريك جونية يحلق بزواره فوق سفوح جبل لبنان، ليصل بين خليج جونية ومنطقة حريصا، متأرجحًا على ارتفاع 550 مترًا فوق الأرض، كان في مخيلتي تلفريك القصير يحمل السياح فوق هذه الأبراج الهرمية، ينقلهم بين أطلال الماضي وإشراقات المستقبل، يُطلّ بهم على البحر الأحمر من جهة، وعلى الرمال الذهبية للصحراء من جهة أخرى. وكما بدأ تلفريك جونية كفكرة حلمت بها مجموعة من الشبان في رحلة مدرسية، حلمت أنا بأن تصبح هذه الأبراج وسيلة تربط القصير بالعالم، وسيلة تبعث الروح في مدينة كانت يومًا مركزًا للصناعة، لتصبح اليوم مركزًا للسياحة والجمال.

في حلمي، كنت أرى السياح وهم يستمتعون برحلتهم فوق تلك الأبراج، يتأملون في التاريخ العريق للمدينة، ويتنفسون عبق الصحراء والبحر معًا، وكلما ارتفع التلفريك في السماء، كان يرتفع معه إحساس بالفخر والانتماء لهذه الأرض الطيبة، وكأن تلك الأبراج الهرمية أصبحت كيانًا حيًا يروي قصص الماضي ويبتسم للمستقبل.

كانت البواخر ترسو في عمق البحر، حيث يتماهى الأفق بين زرقة السماء والماء، هناك في ما يُعرف بين أهالي القُصير بـ”الباحة”. في هذا المكان الغامض، حيث تلتقي قسوة البحر بعنفوان الصحراء، كانت عمليات شحن الفوسفات تشبه طقوسًا قديمة تتحدى الزمن. كانت السفن تنتظر بفارغ الصبر تلك المراكب الضخمة المجوفة، التي أطلق عليها الأجداد اسم “المعونة”، حيث كانت تلك المراكب تحمل في جوفها جوالات الفوسفات، وتشق طريقها عبر الأمواج، مسحوبة بقوة اللنشات، نحو البواخر الضخمة التي تنتظر على مشارف البحر المفتوح. هناك، تحت شمس النهار الحارقة، كان العمال يفرغون هذه الكنوز الأرضية من “المعونة” إلى أحشاء البواخر، في مشهد يكاد يكون أسطوريًا.

ولكن مع مرور الزمن، وتقدم التكنولوجيا، جاء الإيطاليون بفكرة عبقرية لتحويل هذا المشهد البدائي إلى منظومة متكاملة لنقل الفوسفات. في بدايات عام 1922، شُيِّد ميناء جديد في القُصير، مستعينين بخبراء ألمان، وأقاموا منظومة شحن عصرية عُرفت بين الناس بـ”العلبة” أو “برج الشحن”. كانت هذه المنظومة ترتكز على أبراج حديدية تمتد داخل البحر، تحمل عربات تسير في الهواء، كأنها طيور من حديد تنقل الفوسفات بخفة ونعومة فوق الأمواج المتلاطمة. كانت العربات تُفرغ حمولتها مباشرة في البواخر الراسية، لتستعد للإبحار محملة بكنوز الصحراء.

تلك العربة الهوائية، التي كانت أشبه بجسر معلق في السماء، لم تكن مجرد وسيلة لنقل الفوسفات، بل كانت رمزًا للتقدم الهندسي، وتصميمها لم يكن عاديًا؛ فقد أبدع في تخطيطها نفس المكتب الهندسي الذي صمم برج إيفل في فرنسا. كانت العلبة شاهدة على عصر ذهبي، يُحاكي فيه المصريون كبار المهندسين في العالم، ويبنون في صحرائهم ما يضاهي أعظم التحف الهندسية في الغرب.

لكن المأساة جاءت مع مطلع القرن الجديد. ففي عام 2003، بدأت معاول الهدم في اجتياح هذه الأعجوبة الهندسية. تم هدم التلفريك الخاص بنقل الفوسفات، وتلاشت معالم برج الشحن العملاق، وكأنه لم يكن يومًا نصبًا تذكاريًا يروي قصة نهضة وتطور. تلك الأبراج الثمانية التي كانت تحمل بين السماء والأرض حبالًا من الصلب بقطر بوصة وربع، والتي كانت تُدار بالبخار والديزل والكهرباء، انهارت في لحظات، لتنتهي معها صفحة من تاريخ القُصير.

زر الذهاب إلى الأعلى