ثقافةدنيا ودينمقالات

التسلسل التاريخي لقصة إبراهيم(6)

للاستاذ الدكتور علاء الحمزاوى الاستاذ بجامعة المنيا

متابعة/ ناصف ناصف

 رجع سيدنا إبراهيم وسارة وهاجر من مصر إلى فلسطين، ولأن سارة كانت مدركة أنها عقيم وهبت هاجر لإبراهيم، فتزوجها وأنجب منها إسماعيل، ثم أمره الله أن يذهب بها وبرضيعها إلى مكة في أول زيارة له ضمن خمس زيارات ثابتة قام بها، ولم تكن يومئذ مكة، ولم يعرف مكانها، فدلّه عليها جبريل، وقد وصل إليها بالبراق، وهناك أمر الله إبراهيم أن يترك زوجته وابنه ويعود وحده إلى فلسطين! وهذا ابتلاء كبير لإبراهيم ضمن سلسلة ابتلاءات له من الله نجح فيها جميعا تصديقا لقوله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ}، فالكلمات هي التوجيهات الإلهية له وقد نفّذها كلها دون تردد، والدليل قوله: {فأتمهنّ} فالفاء حرف عطف يفيد سرعة الاستجابة، وذلك راجع إلى قـوة اليقين عنده؛ فاستحق من الله الثناء بقوله تعالى: {وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى} واستحق الإمامة {قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا}، والإمامة أوسع من الرسالة، فالإمام يقتدي به أتباعه ويقتدي به غيرهم في الخير، فطمع إبراهيم في كرم الله، فطلب الإمامة لبعض ذريته، {قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي}، فقال الله له: {لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} أي لا تصيب الإمامة الظالمين، وهذا معناه أن من ذريته ظالمين، وهو ما أكده قوله تعالى: {وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ}، والمحسن هو المؤمن، وأول المحسنين الأنبياء، والظالم لنفسه هو العاصي، وأعظم المعاصي الكفر، والظالم لا يصلح للإمامة.

ــ ولما أخبر إبراهيم هاجر أنه تاركها بأمر من الله قدّمت هاجر المصرية أول نموذج في التاريخ للثقة بمعية الله بقولها: إذن لن يضيعنا الله! ثم دعا إبراهيم قائلا: {رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ}، كلمة {مــن} للتبعيض في قوله: {من ذريتي} أي أسكنت بعض ذريتي في مكة، وهذا يعني أن بعضهم الآخر وهم ذرية إسحق في مكان آخر هو فلسطين، و{من} للتبعيض في قوله: {أفئدة من} أي بعض الناس تهوي إليهم، ولو قال: “أفئدة الناس” لهوت إليه جميع الأمم في الأرض، لكن شاءت إرادة الله أن يكون من الناس {مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ} وفقا لعمله، وتعبير {تهوي إليهم} يدل على شدة تعلُّق المسلمين بمكة، والعلة من قوله: {وارزقهم من الثمرات} أن يتفرغوا للعبادة شكرا لله، وقصر إبراهيم الدعاء بالرزق على المؤمنين، فقال: {وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ}؛ تحفيزا لأهل مكة على الإيمان، واعتقادا منه بأن الرزق كالإمامة لا يناله إلا المؤمن، فبيَّن الله له أن الإمامة تختلف عن الرزق، فالإمامة فضل يختص الله به من يشاء، لكن الرزق تكفّل الله به للجميع، فقال له: {وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَىٰ عَذَابِ النَّارِ}، كما تضمن الدعاء الأمن والأمان للمكان، فقال: {رَبِّ اجْعَلْ هَٰذَا بَلَدًا آمِنًا} أي اجعل هذا المكان الموحش بلدا آمنا عامرا بالناس.

ــ مكثت هاجر وحدها مع ابنها، ولما نفد الطعام والشراب انطلقت تسعى بين جبلي الصفا والمروة بحثا عن الماء، والسعي المشي بقوة وجهد، فسعت سبع مرات، والمسافة بينهما قرابة خمسمائة متر، وفي نهاية الشوط السابع هبط جبريل عند الطفل وضرب في الأرض فنبع الماء، وقال لها: لا تخافوا الضياع والهلاك، فالله يحفظكم ويرعاكم، فإن هاهنا بيتًا لله يبنيه هذا الغلام وأبوه، وإن الله لا يضيَّع أهله، فجعلت تحوّض الماء أي تجعل له حوضا وتسقي ابنها، وتقول: زمزم، ويبدو أنها كلمة مصرية بمعنى (تجمّعْ)، وكررتها ليتوقف الماء عن الجريان خوفا أن ينفد، لذلك علّق النبي على تصرّفها قائلا: “رحم الله أم إسماعيل لو تركت زمزم لكانت عَيناً مَعيناً”، أي نهراً عامراً ظاهراً يجري فوق الأرض لا يحبسه شيء، ونتيجة لسعي هاجر بين جبلي الصفا والمروة صار السعي بينهما من شعائر الحج والعمرة، وصار الشرب من ماء زمزم سُنة وبركة، ثم دبّت الحياة في المنطقة الموحشة، واعتمر المكان بالعرب، وعلَّموا إسماعيل اللغة العربية وتزوج منهم، لكن نستنبط من سلوك هاجر أن الرزق سعيٌ مع وتوكُّل.

ــ أما سيدنا إبراهيم فقد استقر في فلسطين، ثم قام بزيارته الثانية لمكة بعد ثلاث عشرة سنة تقريبا؛ حيث بلغ إسماعيل السعي، وقد حدث فيها الابتلاء العظيم بذبح ابنه، ولا يمكن أن يكون الذبيح إسحق؛ لأن الله قال فيه: {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ}، فكيف يقع الابتلاء مع البشرى بيعقوب؟ والابتلاء قائم على رؤيا منامية رآها إبراهيم ثلاث مرات: في ليلة الثامن من ذي الحجة، فلما أصبح أخذ يتروى في الأمر، فسُمّي يوم التروية، والمبيت فيه بمنى سُنة، وفي ليلة التاسع فلما أصبح عرف أن الرؤيا حق فسُمّي يوم عرفة عـرفة، والوقوف على الجبل فيه أعظم شعائر الحج، وفي ليلة العاشر، فلما أصبح قرر نحر ابنه، فسُمّي يوم النحر، وسجل القرآن هذا الحدث في قوله: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَىٰ قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ }، وفي هذا الخطاب أربع وقفات: الأولى: معنى {السعي}، فهو المشي بهرولة كقوله: {يَأْتِينَكَ سَعْيًا}، والعمل كقوله: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لشتى}، والطاعة كقوله: {وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا}، وقيل: السعي مكان النحر، وكلها تشير إلى أن إسماعيل كبر وشبّ، والثانية: الرؤية المنامية، فهل يُتخّذ قرار مصيري نتيجة رؤيا منامية؟! بالنسبة للبشر لا ، لكن بالنسبة للأنبياء نعم، ويتضح ذلك في الوقفة الثالثة: {افعل ما تؤمر} فالرد مخالف للطرح، والحق أن كلام إبراهيم جاء رقيقا لينا يحمل معنى المشورة والمشاركة في الرأي، ولو أخبره بأن ذلك أمر إلهي ما أعطاه فرصة للتعبير عن رأيه، فكان أبا مثاليا في إطلاق الحرية لابنه لاتخاذ القرار، وجاء رد ابنه يحمل طاعة مطلقة لله؛ لأنه يدرك أن رؤيا الأنبياء حــق يجب تنفيذها، ونستنبط من الموقف ضرورة أن يأخذ الآباء رأي أولادهم فيما يتعلق بهم، والرابعة مع {الصابرين}، فقد ضرب إسماعيل المثل الأعلى في الصبر على الابتلاء، فليس بعد قبوله الذبح ابتلاء، ولما نجحا في الاختبار كافأهما الله بمكافأتين، فما هما؟ للحديث بقية.

زر الذهاب إلى الأعلى