مقالات

حيران يكتب مقالة بدون عنوان :بقلم د / عبد الرحمن نصار وكيل وزارة الأوقاف ببنى سويف


تزوجت هند بنت عتبة رضى الله عنها من رجلين قبل أن تسلم ،(فاكه وأبى سفيان)،
وكان زوجها الأول ثرياً يكرم الضيفان ،وفى بيته متسع لمن يفد على داره ،يستريح فيه ويطعم ،وربما أخلد إلى النوم ،
وذات يوم دخلت هند ذلك المتسع الذى نسميه اليوم (مضيفة)لتقمه وتنظفه ،فوجدت ضيفا نائماً فخرجت من فورها، غير أن أحدهم رآها فقدر فى نفسه أنها ما نجت منه ولا نجا منها ،فتكلم بذلك وذاع الخبر فى مكة ،وردها زوجها إلى دار أبيها .
……………
،
وطفق الناس يتحدثون بالأمر وهى تتلظى بنار الغضب ،وأهلها كذلك ،فقد كانت عفيفة ولم يعرف عنها ذات يوم أنها بغى ،
وكيف وهى القائلة بعد إسلامها استنكاراً على من تفعل ذلك (أو تزنى الحُرة ) ؟.
……………
لقد ولغ الناس فى عرضها ،
وانتشر الحديث ،
وحسم أمثال هذه الموضوعات عسير .
فما أكثر المتطلعات لمكانها من زوجها ،ثم لازاحتها و تمريغ سمعتها ،
غير أن أباها يصدق أنها بريئة عفيفة محصنة ،
ودارت الأحاديث فى البيوتات والقبائل تلتمس مخرجاً ،تسكت به الألسنة الحداد الأشحة.
ولابد لهذا المخرج أن يكون مقبولاً كلامه ومصدقاً حديثه حتى تنتهى هذه الواقعة الأليمة على خير ما تنتهى إليه وقائع الشرف .
فانتهى الرأى إلى خروج هند مع أبيها ونفر من أهلها وأهل زوجها وبعض النسوة إلى عرّاف شهير باليمن يستطلعونه فى هذا الحادث الجلل.
………………..
ولأنها امرأة أوتيت إلى جوار الشرف رجاحة العقل ،قالت لأبيها :-إن العراف يصيب ويخطئ ،وإن أخطأ فى هذه ،فهى السُبة التى لا منجى من عارها وشنارها أبد الدهر.
وصرحت هى بذلك الهاجس المخيف ،غير أن والدها كان مؤمناً بصدقها ،وكان ذكياً حاذقاً فعقد العزم على اختبار ٍ للعرّاف ،طمأنة لنفسه ولابنته .
ثم دخلت هى عليه مع نسوة طاف بينهن ينظر فى وجوههن حتى وضع يده على رأسها قائلاً :(قومى غير زانية ولتلدن ملكاً يقال له معاوية ).
فبسط لها زوجها يده فرحاً ،فقبضت يدها وأبت أن تعود إليه وقالت :(لأحرصن أن يكون من غيرك)،فخذلته ،ثم خطبها ثلاثة من قومها فاختارت أبا سفيان بن حرب .
وولدت له معاوية.
…………..
وهذه القصة التى اختصرنا أحداثها تضع أيدينا على عدة نقاط ،تجعل لهؤلاء القوم الذين عاشوا فى الجاهلية امتيازاً أدبياً واجتماعياً أرقى من الذى نعيشه الآن .
النقطة الأولى :أن هؤلاء رغم بداوتهم وحميتهم التى عرفوا بها ، جعلوا الأولوية الكبرى للتحرى عن صدق الواقعة ،ولم يضغطوا على ابنتهم نفسياً حتى يضطروها إلى أضيق السبل ،كما فعلت أسرة كفر الزيات مع ابنتهم التى أنهت حياتها بيديها .
وهذه تُحسب لصالح الأولين لا الآخرين .
النقطة الثانية :أنهم بالغوا فى تحرى الحقيقة والتماس البراءة التى وثقوا منها ،حتى إن ذلك قد كلفهم سفراً لا تقل مدته ذهاباً وإياباً عن خمسين يوماً .
النقطة الثالثة :هى أنهم لجأوا إلى الوسيلة المتاحة يومئذ وهى العرّاف ، طلباً لدقة التحرى.
……………..
وهنا مربط الفرس.
فإن تلك الفتاة قالت :إن العرّاف يصيب ويخطئ.
وآمن أهلها بقولها ،وأمّنوا عليه ،فعقدوا له اختباراً.
وهذه التفصيلة تطعننا فى عقولنا وثقافتنا وديننا طعنات غائرة ،وليست الطعنة النجلاء ،التى طُعنها قسطنطين برانكومير من خادمته فى الرائعة القصصية (فى سبيل التاج)التى ألفها فرانسوا كوبيه وعرّبها مصطفى لطفي المنفلوطي رحمه الله.
إننا الآن وبكل أسف ندعى أننا نعيش عصر التنوير ،ونصدق أقوال العرافين والدجالين ومن دونهم ومن فوقهم ،فى كل ما يقولون ،ولا نعطى لأنفسنا فرصة التثبت ،ولا مهلة التدقيق ،ولا نعطى عقولنا مهمتها الأصيلة فى التعقل والتدبر .
ولا نعطى ديننا مساحته الطبيعية المنضبطة فى توجيه تصرفاتنا وحياتنا .
وعليه صارت الثلمات كثيرة ،ويتأبى ثوبها الذى أدركه البلى على الترقيع .
إننا بهذا نغمط أصحاب البادية حقهم فى التميز علينا ،بالرغم من جاهليتهم ،التى سبقناهم إليها بالرغم من وسائل الترفيه والتثقيف والتنبيه والتبيين التى أتيحت لنا و نتمتع بها اليوم.
ومع أن التراكمات الثقافية يجب أن تؤدى دورها إلى جانب البناء الحضاري الذى ندعى زوراً أننا فوقه ،وفوق أبنيته الشاهقة،
غير أن حقيقة الأحداث تخبرنا بخلاف هذا.
ومع أن ديننا يقينا الوقوع فى تلك المزالق إلا أننا مصرون عليها ،وعلى المضى فى سبلها ،حتى وإن كلفنا ذلك خسارة أنفسنا وخسارة من نحب ومن نألف ،بل وخسارة ديننا نفسه .وما أفدحها من خسارة ؟
أليس يقول رسولنا صلى الله عليه وسلم :((من أتى عرافاً أو كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم))؟.
……….
إننا وللأسف نرى فى مثل هذا التوقيت من كل عام أسواق النبوءات وأسواق العرافين والدجالين ،قد انفتحت أبوابها وانفسحت المسافات ما بين مصاريع تلك الأبواب ،
ونرى بورصاتها قد علت أسهمها وكثر التداول عليها.
وتجذب هذه الأسواق النافقة بوسائلها البراقة كثيراً من ضعاف العقول والرأى والديانة ،وحتى وإن ادعوا خلاف ذلك .
…………
على أن أسواق العرافين قديماً كانت تعرف طريقها إلى حقيقة واحدة مبثوثة فى مائة كذبة كما جاء هذا المعنى فى حديث منسوب إلى النبى صلى الله عليه وسلم ،
أما أسواق العرافين اليوم فهى تتميز بالإسفاف فى مضمونها ،وتغييب عقول روادها ،
كما تتميز باتساع مجالاتها فهى تتسع للتنبوء الرياضى والاقتصادى والسياسى والعقارى والتجارى وهلم جراً.
مع العناية بتفاصيل جزئية لزوم إغراء المساطيل من زبائنها.
………….
على أننا يجب أن نفرق بين مسألتين غاية فى الأهمية ،مسألة التنجيم والدجل ،ومسألة التوقع المبنى على حسابات علمية ومنطقية.
كأن نقول مثلاً :إن اعتماد العالم على النقل البحرى بهذه الكثافة يؤدى بنا إلى توقع زيادة إيرادات قناة السويس بمعدلات تتناسب مع زيادة معدلات التجارة العالمية وزيادة وسائل االنقل ،
وكأن نقول مثلاً: إن ظاهرة الانبعاث الحراري الآن يتوقع معها زيادة نسب التصحر بمناطق كذا وكذا من العالم مع ذكر ما يترتب عليه من تغير يتعلق بنسب الأمطار والجفاف على اليابسة والجليد ،وتغيير إتجاهات الهجرة للإنسان ،بل وحتى للحيوان والطيور.
وإذا أردنا مثالاً مقرباً ومبسطاً لإمكان ذلك التوقع المبنى على المعرفة :فسنقول :هب أن مدرساً وقف فى الفصل وأشار إلى تلميذ نجيب وإلى آخر بليد .
وقال عن النجيب :هذا سينجح بتفوق .
وقال عن البليد:وهذا سيرسب بجدارة.
وجاءت وقائع النتيجة النهائية ،لتظهر صدق كلامه.
فهل نقول ساعتها:
إنه كان يقرأ الفنجان؟
أم نقول:-
إنه يفتح المندل؟
أم نقول :-
إنه يضرب الودع ؟
أم نقول ؛
وهذا هو الحق والصواب:
إنه كان يعلم مستوى طلابه ،فتكلم بما يعلم وصدقت فراسته.
يا قوم إنى أخاف أن يبدل تصديق العراف دينكم ويشقلب حياتكم.
وألا يهديكم سبيل الرشاد.
فانتبهوا لأنفسكم ،
واحذروا العاقبة 

زر الذهاب إلى الأعلى