تحقيقاتثقافةمقالات

قــراءة في آيات الحج والعمرة 5 بقلم الدكتورعلاءالحمزاوى الاستاذبجامعة المنيا

متابعة/ ناصف ناصف

ـ من تلك الآيات قوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ..}، وفي هذا الخطاب بيّن ربنا أن الحج عبادة تتم في أشهر معينة ولم يحددها كما حدد للصيام شهر رمضان، إنما وصفها بأنها {أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ} للإشارة إلى أنها كانت معروفة عند العرب منذ سيدنا إبراهيم، لا جدال بينهم في تحديدها، وهي شوال وذو القعدة وذو الحجة أو العشر الأوائل منه على اختلاف بين العلماء، وقد نتج عن هذا الاختلاف اختلافهم في تأخير طواف الإفاضة إلى آخر ذي الحجة لسبب ما هل يوجب دما أو لا يوجب؟ والصحيح أنه لا يوجب؛ لأن كلمة {أشهر} جمع، والجمع ثلاثة فأكثر، فذو الحجة كاملا من أشهر الحج، لكن الأفضل ألا يؤخر طواف الإفاضة وأن يتم يوم النحر، ولا يصحّ قبل الوقوف بعرفة، ولا يصحّ الوقوف بعرفة في غير يوم التاسع من ذي الحجة، أما السعي بين الصفا والمروة فيصحّ قبل عرفة وبعده، ولا يصح الإحرام بالحج قبل حلول شوال على الأرجح؛ لأن الإحرام من مناسك الحج، ولا يصحّ الإحرام بالحج بعد فجر يوم العيد بإجماع العلماء.

ــ ثـم شرع ربنا في بيان آداب الحج الكبرى قائلا: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ}، أي من أوجب على نفسه الحج وبدأ في مناسكه بالإحرام والتلبية فلا يجوز أن يرفث أو يفسق أو يجادل، والأصل في الرفث القول الفاحش القبيح، والمقصود هنا الجماع، ولا مانع من الجمع بين المعنيين، فالجماع بمقدماته الكلامية يضمهما، ولا يجوز الجماع قبل التحلل الأكبر؛ لأنه مفسد للحج موجب هديا وحجّا آخر، والتحلل نوعان: تحلل أصغر ويحصل باثنين من ثلاثة: رمي الجمرة الكبرى والحلق والطواف، والترتيب بينها أفضل ولا حرج في المخالفة، وبعده يحل للحاج كل شيء حلال إلا النساء، ثم تحلل أكبر ويحصل بالرمي والحلق والطواف وبه يحل للحاج كل ما حرم عليه أثناء إحرامه، أما الفسوق فهو الخروج عن طاعة الله بالمعاصي وارتكاب محظورات الإحرام، والرفث يدخل في الفسوق لكنه خُصّ بالذكر للتشديد في النهي عنه لخطورته، فهو للحاج من كبائر الذنوب، والجدال هو النقاش غير المثمر المتعمد من شخص تجاه شخص ليُغضِبه فيخرجه عن شعوره وثباته، فيَحدُث ما يؤدي إلى ضياع حجهما، ولا ينال الحاج الثواب كاملا إلا بتجنب هذه المحظورات، جاء في الحديث “من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه”.

ــ ثم حــثّ ربنا على فعل الخير قائلا: {وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ} أي سارعوا إلى الأعمال الصالحة خصوصا في تلك الأزمنة والأمكنة المفضلة، واعلموا أن الله مطلع عليكم وسيجازيكم على خيركم ثوابا عظيما، ثم أمر ربنا بالتزود من الخير فقال تعالى: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى}، أي تزودوا من العمل الصالح أو تزودوا من مالكم وطعامكم وشرابكم، ولا مانع من الجمع بين المعنيين، وأفضل الزاد تقوى الله، لذا ختم ربنا الآية بالحث على التقوى فقال: {وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ}، والألباب جمع لبّ، وهو أفضل ما في الشيء، وسُمّى به العقل؛ لأنه أشرف ما في الإنسان، وخص العقلاء بالخطاب لأنهم هم الأكثر خوفا من الله، ويحتمل أن الخطاب عام للمؤمنين لأنهم أولو ألباب أو للحجاج لأن الحديث كله عنهم.

ــ ولما كان التزود بالتقوى لا يتنافى مع التزود بالمنافع الدنيوية للحُجاج أباح الله لهم الكسب الحلال، فقال لهم: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ}، والجناح هو الميل مأخوذا من جنح السفينة إذا مالت إلى أحد جانبيها، والمراد هنا الإثـم؛ لأن الإثم يميل بالإنسان عن الحق إلى الباطل، فسُمّى جناحا، والابتغاء هو الطلب بشدة، والفضل هو الخير الزائد، والمراد به حصول المال الحلال عن وجوه الرزق المشروع، والمراد من الخطاب أنه لا إثم عليكم في أن تطلبوا رزقا طيبا عبر وسائل الكسب المشروعة في موسم الحج، وسبب التفضل الإلهي على الحجاج أنهم كانوا يتحاشون التجارة في الحج، حتى كانوا يتجنبون البيع والشراء في عشر ذي الحجة كلها، فنزلت الآية لترفع عنهم الحرج في ذلك.

ــ لكن الله شرط عليهم ألا يشغلهم حصول الرزق عن أداء المناسك، قال تعالى: {فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ}، أفضتم: اندفعتم متزاحمين من عرفات مسرعين إلى المشعر الحرام، وعرفات اسم للجبل المعروف، وسُمّى بذلك لأن الناس يتعارفون به، فهم يجتمعون عليه في وقت واحد فيجري التعارف بينهم، وهو ركن الحج الأكبر، فالحج عرفة، ويفضّل التبكير إلى عرفة، ولا يجوز مغادرته قبل الزوال، ويُستحَب أن يمكث الحاج بعرفة جزءا من النهار وجزءا من الليل، والأفضل أن يقف بعرفة من قبل الزوال حتى الغروب يصلي فيه الظهر والعصر جمع تقديم، ويُكثِر الحاجُّ من الذكر والدعاء بإلحاح اقتداء بالنبي، فقد جمع بعرفة الظهر والعصر، ثم وقف على ناقته رافعا يديه ولسانه يلهث بالذكر والدعاء حتى الغروب، وهو القائل: “خذوا عني مناسككم”، وصيام عرفة مكروه للحجاج، وعلة ذلك التخفيف عليهم لتقويتهم على الذكر والدعاء، وصيامه مستحب لغيرهم، وثوابه كبير يكفّر ذنوب سنة ماضية وسنة قادمة، وينبغي أن يُصطحَب الصيام بالدعاء والذكر ولاسيما التكبير أسوة بالحجاج، وللحديث بقية.

زر الذهاب إلى الأعلى