مقالات

قــراءة تأملية في الهجرة النبوية

 

للاستاذ الدكتور علاء الحمزاوى الاستاذ بجامعة المنيا
متابعة ناصف ناصف
ـ أول ما يلفت نظرنا أن النبي استعمل الفعل “هاجر” مع المصدر “هجرة” كما في حديث “ومن كان هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته الى ما هاجر اليه” مع أن اللغة تقول: “هَجَر هِجْرة” و”هاجر مهاجرة”، وبالرجوع للمعجم وجدنا “هَجَر هجرة” بمعنى قطع واعتزل، والهجْر ضد الوصل، ومنه قوله تعالى: {وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ}، وفي الحديث “لا يحل لامرئ مسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث” أي يخاصمه، و”هاجر مهاجرة” بمعنى ترك المكان، وهو ضد البقاء، ومنه قوله تعالى: {فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ}، وعلى ذلك يكون المراد باستعمال “هاجر” مع “هجرة” ترك مكة مع اعتزال الكفر ومقاطعة الكفار؛ مما يؤكد دقة التعبير النبوي.
ــ وللهجرة دافعان: الأول: شدة إيذاء المشركين للنبي وللمسلمين، حتى قال الله له: {وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجوكَ مِنْهَا وَإِذًا لاَّ يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً}، أي أوشكوا أن يضطروك للخروج من مكة، فإذا فعلوا فلن يهنأوا بالسُكْنَى فيها بعدك، فأيقن النبي أنه مُخرَجٌ من مكة وأن المشركين لن يُعمِّروا فيها كثيرا بعد إخراجه، وأنه عائد إليها، وأكّد ربنا ذلك بقوله: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَىٰ مَعَادٍ}.
ــ ومن أجل ترك دعوته سلك المشركون مع رسول الله أسلوبين: الترغيب، فقالوا لعمه أبي طالب: ماذا يريد محمد؟ إن كان يريد جاها أعطيناه، وإن كان يريد مالا أغنيناه، وإن كان يريد مُلكا توّجناه، فلما بلغت كلماتهم مسامع النبي كانت إجابته “والله يا عمّ لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي ما تركت هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك دونه”، وهنا ثلاثة دروس لنا: تقديم الترغيب على الترهيب، والثبات على الحق، وتغليب المصلحة العامة على المصلحة الخاصة.
ــ فلما أيس المشركون من الترغيب مع النبي لجأوا إلى الترهيب بالأذى الشديد، وقد بلغ الأذى مداه بإدماء قدميه، وكان النبي لا يبالي بأي أذى في سبيل رضا الله ونشر الدين، يظهر هذا من دعائه: “اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس إن لم يكن بك عليّ غضب فلا أبالي..”، ومع ذلك رفض النبي أن يدعو على قومه، بل قال: “اللهم اهــدِ قومي فإنهم لا يعلمون”، فنزل فيه قوله تعالى: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ}، وهنا درس لنا في العفو والرحمة.
ــ الدافع الثاني إسلام بعض الأنصار، حيث كان النبي في ظل أذى المشركين له حريصا على نشر دعوته، فكان في موسم الحج يطوف بين الحجاج يقول: «مَنْ يُؤْوِينِي ويَنْصُرُنِي حتى أُبَلِّغَ رسالة ربي وله الجنّة؟»، فلم يجد أحدا ينصره طيلة عشر سنوات حتى أكرمه الله بإسلام ستة من الأنصار سنة 11 من البعثة، وفي العام التالي قـدِم عليه اثنا عشر رجلا عند العقبة، وبايعهم على الإسلام، وسُميت “بيعة العقبة الأولى”، وفي العام التالي قدِم إليه ثلاثة وسبعون رجلا وامرأتان، فالتقاهم النبي سرا بالليل في آخر أيام الحج، فبايعوه على السمع والطاعة والدفاع عنه، وسميت “بيعة العقبة الثانية”، وشكّل النبي منهم أول “حكومة ائتلافية”، حيث اختاروا اثني عشرا رجلا من كبارهم، وقائدهم النبي ودستورهم القرآن، وكانت تلك الحكومة نواة الدولة الإسلامية بالمدينة.
ــ بذلك أضحت المدينة مهيأة لاستقبال الإسلام، فسمح النبي للصحابة بالهجرة إلى المدينة، فهاجروا سرًّا تاركين ممتلكاتهم بما فيهم عمر، ولم ينقص ذلك من شجاعته لكن احترازا من أن الكثرة تغلب الشجاعة، ثم هاجر النبي بصحبة أبي بكر، وقد أحاطته العناية الإلهية فحفظته من كل سوء ومكروه دبّره له المشركون، تحقيقا لقوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}، وكانت هجرته نقطة تحوّل بارزة في حياة البشرية وحدًّا فاصلا بين الحق والباطل، كانت انطلاقةً لنشر الإسلام عالميا وبناءَ دولة إسلامية كبرى فتحت العالم شرقا وغربا، وصنعت حضارة عظمى استمدت أُسُسَها من القرآن والسنة، صار علي هديها الآخرون، وأقامت أوربا عليها حضارتها ومدنيتها الحديثة.
ــ لذلك تــمّ اختيارها للتأريخ العربي في عهد الخليفة عمر، حيث جاءه رجل بصحيفة “وصل أمانة” تثبت دَيْنا له على رجل موعده في شهر شعبان، وقد ماطل المدين في سداد الدَّيْن بحُجّة أن الصحيفة لم تحدد أيّ شعبان؟ فكان داعيا لوضع تاريخ عربي يؤرخ به العرب أحداثهم، فجمع عمر كبار الصحابة، ودار نقاش موسع بينهم، فقيل: نؤرخ كما تؤرخ الفرس وكانوا يؤرخون بأسماء ملوكهم، أو نؤرخ كما تؤرخ الروم ابتداء من الإسكندر المقدونى، أو نؤرخ بمولد النبي أو ببعثة النبي أو بهجرة النبي أو بوفاة النبي، وهذا التصرّف العمري يدل على أن الشورى كانت أحد أسس الحكم في الإسلام؛ مما يؤكد مدنية الدولة، فاختار عمر التأريخ بالهجرة النبوية؛ لأنها نقطة التحول البارزة في حياة البشرية والفاصل بين الحق والباطل.
ــ ومع أن الهجرة حدثت في ربيع الأول يبدأ العام الهجري بالمحرَّم؛ لأنه مُنصرَفُ الحجيج من مكة، وسُمّي بالمحرَّم؛ لأن العرب كانوا يحرِّمون القتال فيه لدرجة أن الرجل إذا لقي قاتل أبيه في شهر المحرم لا يثأر منه، وهو أفضل الشهور بعد رمضان في استحباب الصيام، فيه صيام عاشوراء مكفِّرا لذنوب عام ماض، ويستحب صيام التاسع معه خلافا لليهود، وللحديث بقية.

زر الذهاب إلى الأعلى