ثقافةتحقيقاتدنيا ودينصحيفة المواطن

ظاهرة تكرار " العلم " في سورة الكهف دكتوره شمس راغب عثمان أستاذ الأدب والنقد بكلية اللغة العربية

ظاهرة تكرار " العلم " في سورة الكهف دكتوره شمس راغب عثمان أستاذ الأدب والنقد بكلية اللغة العربية

متابعة/ ناصف ناصف

• أولا : سورة الكهف مكية ، يبلغ عدد آياتها مائة وعشر آيات ، وهي الثامنة والستون في ترتيب نزول السور ، وموضوعات السورة هي العقيدة والقصص ، ويستغرق العنصر القصصي معظم

آيات السورة ، فهو وارد في إحدى وسبعين آية ، تجيء في أولها قصة أصحاب الكهف، وتتوسطها قصة موسى مع الخضر

– عليهما السلام – وفي خاتمتها قصة ذي القرنين ، كما ذكرت بأسلوب التمثيل قصة المؤمن مع صاحب الجنتين ، وأشار اختصارا إلى قصة آدم وإبليس ، وأما المتبقي من الآيات – في

الغالب الأعم – فهو قضايا متعلقة بالعقيدة وإثبات الرسالة .

• وتشير بعض كتب التفاسير إلى أن الموضوع الأساسي في سورة

الكهف هو ترسيخ أسس العقيدة الإسلامية الصحيحة المشتملة على التوحيد والنبوة المحمدية واليوم الآخر ، وإثبات أن البعث

حق ، وأن المؤمن يكافأ بحسن الجزاء ، وأن الكافر يلقى جزاء

عنته وكفره في الدنيا والآخرة (١) .

• كما أشار آخرون إلى أن المحور الرئيسي في السورة هو العصمة

من الفتن ، مثل فتنة السلطان ، وفتنة الشباب ، وفتنة المال والولد ، وفتنة إبليس ، وفتنة العلم ، وفتنة يأجوج ومأجوج .

• ويمكن قبول هذه الآراء في الإطار العام للسورة ، ولكن السياق

الخارجي والسياق الداخلي للسورة – كما سيأتي بيانه – يشيران

إلى أن الموضوع الأساسي في السورة هو ” تقرير العلم الإلهي “

الذي جاء به القرآن الكريم ، وأنه هو العلم الحقيقي الذي يثبت

الحقائق ، ويصحح الأفكار والعقائد الزائفة ، ويؤيد النبوة بالأدلة

والبراهين الواضحة .

” ظاهرة تكرار العلم في سورة الكهف “

• يلاحظ قاريء سورة الكهف أن تكرار لفظ ” العلم ” ومشتقاته

ظاهر بين في بعض آياتها وقصصها ، وهي ظاهرة أسلوبية تستحق الدراسة والتحليل ، وقد وردت العبارات المتعلقة بالعلم

في صيغ صريحة ، على النحو الآتي :

•الآيات التي ورد فيها لفظ العلم – الصيغة اللغوية – رقم الآية :

١- ” ما لهم به من علم ولا لأبائهم . كبرت كلمة تخرج من أفواههم ” الصيغة اللغوية ” مصدر ” رقم الآية 5 .

٢- ” ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا ” الصيغة اللغوية ” فعل مضارع ” رقم الآية ١٢ .

٣- ” قالوا ربكم أعلم بما لبثتم ” الصيغة اللغوية ” اسم تفضيل “

رقم الآية ١٩ .

٤- ” وكذلك أعثرنا عليهم ليعلموا أن وعد الله حق ” الصيغة اللغوية ” فعل مضارع ” رقم الآية ٢١ .

٥- ” فقالوا ابنوا عليهم بنيانا ربهم أعلم بهم ” الصيغة اللغوية ” اسم تفضيل ” رقم الآية ٢١ .

٦- ” قل ربي أعلم بعدتهم ما يعلمهم إلا قليل ” الصيغة اللغوية “

” اسم تفضيل وفعل مضارع ” . رقم الآية ٢٢ .

٧- ” قل الله أعلم بما لبثوا ” الصيغة اللغوية ” اسم تفضيل “

رقم الآية ٢٦ .

٨ – ” فوجد عبدا من عبادنا ءاتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما ” الصيغة اللغوية ” فعل ماض ومصدر ” رقم الآية ٦٥ .

٩- ” قال له موسى هل أتبعك على أن تعلمن مما علمت رشدا “

الصيغة اللغوية ” فعل مضارع وفعل ماض ” رقم الآية ٦٦ .

• وأما الآيات التي أشارت إلى ” العلم ” بألفاظ غير مباشرة فكثيرة ، منها لفظ الكتاب الذي ورد في أول السورة قال تعالى :

” الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا “(١)

الكهف : ١ ، ومنها لفظ ” مداد ” الذي ورد في خاتمة السورة ،

قال تعالى : ” قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر

قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا ” الكهف ١٠٩ .

• و لتحليل هذه الظاهرة الأسلوبية ” التكرار ” الواردة في

في هذه الآيات للكشف عن بنيتها اللغوية ، وما حدث فيها من عدول في مستويات اللغة المختلفة ، مع الإشارة إلى وظيفة

التراكيب اللغوية في إنتاج الدلالة ، وتوفير الترابط والتناسق

الفني بين الآيات وقد ورد ذلك في إحدى وعشرين آية في الدراسة التطبيقية ، على أني سأكتفي بمطلع السورة ، وخاتمة السورة كي لا أشق على القراء قال تعالى :

١ – ” الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا “

الكهف : ١ .

• تقوم بنية هذه العبارة على الجملة الإسمية التي تحمل معنى التأكيد على قضية الحمد وتخصيصه بالله تعالى منزل الكتاب ” القرآن ” ، وعدل عن ذكر “القرآن ” وسماه ” الكتاب ” ؛ وفي ذلك

إشارة إلى كونه وحيا مجموعا ومنزلا ومحفوظا بين دفتي كتاب ، وعدل إلى كلمة ” عبده ” بدل ” رسوله ” تنويها بمنزلته

وقربه من الله تعالى ، ورفعة قدره بإنزال الكتاب عليه (٢) ،

ومعلوم لدى المخاطبين أنه النبي الأمي محمد – صلى الله عليه وسلم – .

• ثم جاء وصف الكتاب بالاستقامة ولكن بأسلوب النفي ” ولم

يجعل له عوجا “، والمراد : نفي التناقض والاختلاف عن معانيه

،ثم أضاف كلمة ” قيما ” التي تدل على المبالغة في الاستقامة

، وغيرها من الدلالات الأخرى التي أشار إليها المفسرون ، وكلها

تدل على كماله من حيث صحة المعاني والسلامة من الخطأ

والاختلاف .

• وتشير هذه الآية إلى أن القرآن الكريم المنزل على نبيه – صلى الله عليه وسلم – هو الكتاب الذي حوى العلم الإلهي عن حقائق

التوحيد وما يتعلق به من عقائد وشرائع ، وهدفه هو إرشاد الإنسان إلى الصواب .

٢- ” قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا ” الكهف ١٠٩ .

وردت هذه الآية في خاتمة سورة الكهف ، وجاء في تفسير الطبري عن سبب نزولها : ” أن اليهود لما قال لهم النبي – صلى الله عليه وسلم – قول الله تعالى : ” وما أوتيتم من العلم إلا قليل ” الإسراء ٨٥

• قالوا : وكيف وقد أوتينا التوراة ، ومن أوتي التوراة فقد أوتي

خيرا كثيرا ؟ فنزلت : ” قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد “

الآية .

• تتحدث هذه الآية عن القرآن الكريم بوصفه مصدر العلم الإلهي

الذي لا ينفد ، وقد جاء التعبير عن هذه الفكرة بأسلوب جميل

قائم على استعمال اللغة بطريقة تصويرية جميلة ، وهو تعبير قائم على العدول باستخدام الصور النامية ، وهي التي يتسع مداها بطول تأملنا لها ، والهدف من هذه الصورة هو إنتاج الدلالة ؛ فالمعاني المجردة لا يستطيع العقل البشري إدراكها بسهولة ، ولذلك يلجأ إلى التصوير من أجل تقريبها إلى الذهن

فكلمات الله تعالى وآياته لا يمكن للعقل البشري الإحاطة بها ، فعبرت الآيات عن عظمة القرآن بصورة حسية غير متوقعة وهي نفاد البحر ، وهذا التعبير المصور هو نوع من العدول في الأسلوب القرآني .

• وتبدأ الصورة بأسلوب الشرط الذي يحقق التماسك الداخلي بين الجمل ، والعلاقة الناشئة بين البحر وكلمات الله ؛ فالبحر هو تلك البقعة المائية في اللغة العادية ، ولكنه في الآية يتحول

إلى بقعة مليئة بالمداد لكتابة كلمات الله ، ولكن يفاجأ القارئ

بنفاد البحر لأنه لا يتسع لكلمات الله التي لا يحدها حد .

والنتيجة التي يتوصل إليها القاريء هي أن كلمات الله غير محدودة .

• وكلمات الله هي الوحي الإلهي الوارد في القرآن ، والوحي

هو العلم الإلهي الذي تسعى السورة إلى إثبات حقيقته ، في مقابل إثبات محدودية العقل البشري .

• ” سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم “

———————————— :

(١) ينظر : تفسير التحرير والتنوير ، ابن عاشور : ( ج١٥ ص ٢٤٦ ) .

وأهداف كل سورة ومقاصدها في القرآن الكريم ، عبدالله شحاتة

، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، القاهرة ١٩٧٦م ، ص ٢٠١ .

(٣) التحرير والتنوير ، ابن عاشور : ( ج١٥ – ص ٢٤٧ ) .

زر الذهاب إلى الأعلى