مقالات

(ولو أنصفت لم تلم)

(ولو أنصفت لم تلم)

د. عبد الرحمن نصار يكتب..

فى القرآن الكريم ستجد قوماًيصفهم الله عزوجل بأنهم (أولياؤه)،ويصفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنهم (أهل الله وخاصته )،ويطلقون على أنفسهم أو يطلق عليهم الناس (أهل الطريق )وإطلاقات أخرى،

وهؤلاء القوم الذين يستحقون الغبطة ،لنا فى بعض شأنهم مقالة 

ألا وهى :-

أنهم بهذا الإطلاق أوتلك التسمية التى ارتضوها ليسوا ملتفتين أو راغبين عن الإطلاق الإلهى أوالنبوى عليهم ،

ولكن فيما أرى وأتصور ،

أنهم رأوا أنفسهم دون تلك المنازل ،فقالوا:-

 إنا على طريق هؤلاء الكبار الموصوفين بتلك الأوصاف العلية ،

وإلا فلو أن أحدهم تحقق من أنه محلٌ لأحد هذين الوصفين لما عدل بأحدهما شيئاً ولا رغِب عنه أبداً، 

ويلاحظ على هؤلاء القوم (أهل الطريق)أنهم أوتوا عطاءً عجيباً،

ألا وهو أن الحكمة تنطلق على ألسنتهم كالأنفاس الجارية من نفس خالية من العلة، فلا هى مصدورة ولا محصورة ،

هذه الحكمة فيها من الصدق والقبول معاً ما يدهش القارئ والسامع جميعاً،

ذلك أنك لا تجد كثيراً منهم مختصاً فى فنون القول ولا سالكاً فجاج البلغاء المتخصصين ،

ومع ذلك فكلامه عبارة عن سياحة فى مجارى الفصاحة ،

دون افتعال أوتصنع ،

(وأهل الله وخاصته وأولياؤه أوأهل الطريق )،

كثير منهم لا يعرف عنه أنه ألف كتباً أو صنّف علوماً ،

وكثير منهم له مؤلفاته ومصنفاته ،

وكثير من مؤلفيهم مقلٌ فى إنتاجه العلمي ،

ولا يقدح خلو بعضهم من التأليف أو إقلاله من منازلهم العلية،

لكن ما وصلنا من كلامهم إنما هو صورة صادقة لانفعالاتهم النفسية وتصورهم الصادق لحقائق الدنيا والآخرة ،فتنساب الكلمات على خواطرهم ربما دون تحضير أو تنميق، وتنتشر فى الناس ،وتتبوأ مواقع الصدارة فى الحديث ، وتنزل منازل القبول فى السمع والنفس ،فلا تزل بعد ثبوتها ولا تضطرب بعد استقرارها ،

وكم كلمة قيلت على ألسنتهم أو رويت عنهم انطبق عليها هذا الوصف ؟

(لا شك كثير كثير )،

ومن جميعهم ، لا من واحد دون واحد ،

(وإن علا بعضهم على بعض )

لكن الجامع المشترك بين هؤلاء جميعاً : أنك لا ترى فجوة تسمح بمرور ولو خيط رفيع بين قولهم وسلوكهم ، لحالة الصدق والانفعال النفسي الخالص والصادق فى آن ،فتشعر أن المقال والحال لُحمة واحدة ،

وترى هذه الكلمات آسرة تطّبى قلب الخلى إلى الهوى وتهيّجُه ،

كأنما تتنزل من مكان علوى ، إن غفلنا عن مصدره ،

 فلن نغفل عن أثره وقوة تصدره ،

وكلام هؤلاء حقيق بأن تُفرد له دراسات تختص لا بالناحية الأسلوبية ،والتراكيب البيانية وحسب ، بل بتأثيرها السيكولوجى على متلقيها وقائلها ،فإنها من أكثر الكلام إشراقاً وعلواً وإلهاماً وتأثيراً وصدقاً وألقاً وإبهاراً ،

حتى ليعجب المطلع عليه فيتساءل : عن تلك القوة الكامنة فى هذا الكلام الآسر ،

وليعجب كذلك كيف لهؤلاء القوم الذين عرفوا بالزهد بل بالشعث فى كثير من مظاهرهم :كيف خرجت عباراتهم بكل هذا الألق والبريق والتأثير والسفور البلاغى والتأثيرى ولم تكن شعثاء كغالب هيئاتهم ولا متقشفة كحياتهم؟ 

…………….

وإن القارئ لكلامهم ليتساءل :كيف انطلقت تلك الدرر من ألسنتهم وخواطرهم ؟

لكن يزول عجبه وتتوارى دهشته عندما يدرك جلياً قول ابن عطاء رضى الله عنه:-

 (الإمداد على قدر الاستعداد)

وسيمتلئ رضاً وتسليماً عندما يقرأ قوله تعالى ((يؤت الحكمة من يشاء)) .

إن الكلمة وسيلة فى تبيان الصدق وإبلاغ الحقيقة ، وهذه الكلمات الجليلة التى تروى عن أهل الطريق إنما هى تعبير صادق وأمين عن مسالكهم فى الحياة وعن تبتلهم الصادق الذى يجلو الحقائق كضوء النهار ، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم ((إن من البيان لسحراً)).ولا ينتقص من كلامهم هذا أن عمى مدخله وطمرت معانيه ومعالمه عن بعض المتلقين الذين لا تتسع آنيتهم لاستقبال ما يهطل عليها ،

إن بعضهم تعلل بالمنطق أحياناً فى القبول أوالرد ولا تثريب عليه ،

وبعضهم يستسلم لحبورها ونورها وحكمتها المكنونة فى أعماق الضياء ولا تثريب عليه ،وسبحان من خلق الإنسان وعلمه البيان ،ويا لائمى :لو أنصفت لم تلم .

زر الذهاب إلى الأعلى