عاجل

حكاية بطل بقلم أحمد الغنامي

حكاية بطل بقلم أحمد الغنامي

كتب / أحمد الغنامي

فى تاريخنا أسماء وأبطال وأحداث وبطولات لا تُنسى ويجب ألا تُنسى.. و مسئولية الإعلام أن يبعدها عن النسيان ويبقيها فى دائرة الضوء.. ومن هذا المنطلق تبدأ جريدة أنباء الشرق الأوسط الدولية في تسليط الضوء على قصص هؤلاء الأبطال بالتعاون مع المؤرخ / يحيي مصطفى – من مجموعة المؤرخين ٧٣.

     في سلسلة حلقات تحت عنوان “حكاية بطل”

وبطلنا اليوم هو ضابط مهندس: كامل محمد صالح الجداوي

صاحب صيحة “الله أكبر، تحيا السويس” في حرب ٧٣

الذي ولد في 20 يوليو، 1944، بمحافظة السويس

وتدرج في التعليم بمدارس السويس من المرحلة الابتدائية، بمدرسة النهضة. والإعدادية بمدرسة الأقباط ، ومنها إلى مدرسة السويس الثانوية العسكرية،

إلى أن تخرج من كلية هندسة بترول السويس (جامعة قناة السويس)، دفعة 1971،

وجاء موعد إلتحاقه بالخدمة الوطنية” التجنيد” في 1971 ومن هنا يروي قصته على لسانه :-

كنت أنا الوحيد في الدفعة الذي أقول “يارب أدخل ضابط…مش عسكري ” لما عايشته من الضربات والحروب التي مرت بها السويس فدعوت الله أن يحقق أمنيتي ،

وكان هناك ورقة نقرأها (لكشف الهيئة) يعرفون ان كنت تنطق الحروف بطريقة سليمة، كي تكون هيئتك طيبة أمام العساكر (وهي من عوامل المصداقية، واللازمة للإدارة، والقيادة، وإطاعة الأوامر،…) وقرأتُ، والحمد لله.

وآخر شيء ، أرغب في ضابط احتياط، أو لا أرغب، والأغلب قالوا لا أرغب،

كي يرون ان كنت ألدغ في حرف الراء (ر)، قلت أرغب، وصرت ضابط.

أصبحت ضابط، معي المخلة، تم توزيعي إلى الجيش الثاني ، فِرقة 18، بقيادة العميد فؤاد عزيز غالي، واللواء 163 مشاة ميكانيكي. أنا قائد فصيلة الغام (في اللواء 163).

وفي فترة تعلمت أن أكون ضابط، وفي منطقة أبو خليفة (بين الإسماعيلية وبورسعيد) منطقة فلاحين وقد هاجروا. وأبو خليفة تلك منطقة زراعية، وخط القنال كان كله جيش، من السويس إلى بورسعيد (قبل بورسعيد بقليل).

في أول شهور من 1971 درست ضباط احتياط (مهندسين) في الهرم، وكان هناك مدرسة ضباط احتياط، هناك صول اسمه “حجر”، درس لنا رص ألغام، وتعامل مع الألغام، سلام سلاح… وعسكرية، وضرب نار، التعليم الأساسي (صفا وانتباه، وضرب نار، بالإضافة إلى الألغام، التدريب الفني)

وكانت سَريتي من 4 ضباط احتياط، ليس معنا ضابط عامل، أما عن قائد السَّريّة كان ضابط عامل مهندس، خريج هندسة ومنها إلى فنية عسكرية، أو فنية عسكرية مباشرة. وقائده المباشر، مهندس، خريج فنية عسكرية، اسمه رئيس الفرع، تلك هي الرتب بالنسبة لسَّرية المهندسين في لواء المشاة، تبدأ من عريف، شاويش، ضابط احتياط، قائد سَّرية، رئيس فرع…

الفصيلة معي 25 جندي، تدربنا تمام. حتى الأكل، تعلمنا، كي نعتاد على ظروف الحرب.

أما عن أحداث يوم الحرب، 6 أكتوبر1973،

في الخامس من أكتوبر، كان هناك تعتيم، إخفاء وتمويه من أنور السادات، وكان شديد الاتقان،

رئيس الفرع قال لي “حضرة الضابط كامل، تعالى معي” وكان رجالي في منطقة “أبو خليفة”، ركبت معه العربية، إلى النقطة المفترض أن نعبر منها، قال لي “شايف المكان ده؟”

“أيوة يافندم”

“انت هتيجي هنا، بعد المغرب أو العشاء، قبل مايطلع الضوء، تعسكر هنا انت والفصيلة،…” أراد أن نبيت هناك، على ألّا يطلع علينا أول ضوء،

في التدريت لم يكن هناك كباري، وكان عبورنا على قارب، كنت أعرف أن عيني على قائد اللواء، يعبر، أعبر خلفه، هكذا تم تلقيني والعساكر خلفي ، وكان قارب قائد اللواء بمُوتور، أما نحن بالمجاديف.

وهناك قال الشاويش ألّا نعسكر ليلا، على أن نجمع الناس إلى هذا المكان، قبل أول ضوء، كما طلب قائد اللواء… واتفقنا، وقولت لرئيس الفرع (وكان اسمه كامل)، أن نحضر مبكرا، قبل أول ضوء، قال لي “خلاص يعني؟” قولت “خلاص” ، لتوفير طاقتهم، بدل أن يتعب الجنود من الآن. و فهم هو ذلك.

تجمعنا، وتحركنا، قبل أول ضوء،

وقبل أول ضوء، يوم السادس من أكتوبر (حوالي الخامسة فجرا)، والحرب حوالي الساعة الثانية ظهرا، ونحن هناك من الفجر، وكان في رمضان وجاءتنا تعليمات بالإفطار،

وإلى الآن الساعة التاسعة، لاشيء، ننظر حولنا، الوضع طبيعي، قولنا (بناءا على تمويه السادات من قبل) أنها سوف تكون سنة ضباب (وقد أثر السادات على إدراكنا وخدعنا ، قبل أن ينجح في خداع العدو).

وبعد قليل، بعثوا لنا عساكر ممن شاركوا في حرب اليمن، أول مرة نراهم، وقالوا لي “يابشمهندس انت مصدق ان فيه حرب؟” وكان السادات كل سنة يقول هنحارب، “عيش حياتك، احنا شوية وهنرَوَّح” مِلتُ لكلامهم، وأهملت التعليمات، وقالوا ان يذهبوا لمنطقة “أبو خليفة” وهي بلدة صغيرة قالوا “هنجيب بطاطس وطعمية، قلت لهم “هناك تعليمات، يمكن أن تقوم حرب” ، قالوا “انت تصدق؟” ونزلوا… وصدقتهم،

وجدت ملجأ تحت الأرض، خلعت الزي العسكري، وكان هناك شيكارة بلح أكلت منها، وشربت مياه وامتلأت بطني، وضعت الخوذة تحت رأسي، قولت أنام، ليس هناك حرب،

أنا من السويس، اعتدت على الطائرات والقنابل،

و نمت،…

وصحيت على صوت “حضرة الضابط كامل، الحرب قامت” ناداني واحد من العساكر، الساعة الثانية وعشرون دقيقة،

ارتديت ملابس العسكرية وتحركت إلى قائد اللواء كان يبحث عني، قلت له أني انتظر عبوره، فقال أن أنتبه، عندما ينزل المياه… قائد اللواء كان اسمه “العقيد أحمد عبده”. أتذكر رؤسائي، وزملائي، ومن الضباط معي كان محمود على حسن (من السويس، ونفس الكلية التي درستُ بها).

“أنا موجود في الخلف” أجبت قائد اللواء، وكانت تعليماته أن ألحقه، بالعساكر،

وعبرت. كل ماترونه في الأفلام، من صيحات “الله أكبر” ، “تحيا مصر” تعلو أصوات الحرب، وكنت الوحيد الذي طلبت من جنودي أن يقولوا “الله أكبر، تحيا السويس” وسمعوا كلامي، لا ادري لماذا لكنها خرجت مني تلقائية

كل من عبر منا، نام على أرض سيناء، يسجد لله شكرا، يقبل الرمال، وفي تلك اللحظة رأيت جثث ليس لها مثيل من العساكر المصريين من شهداء 67.

جثث مصرية بالمئات، لم يدفنها أحد، هيكل عظمي، سلاحه بجانبه، وعربيات الجيش (الزِّيل) لازالت موجودة ليس بها طلقة، هذا معناه أنهم ماتوا من الجوع والعطش…

ولا حول ولا قوة إلا بالله رأيتها أول ماعبرت.

عبرت المياه (القناة)، أول ماتعبر المياه لا ترى المساحة أمامك لإن العدو عمل ساتر، فتنزل مرة أخرى لأسفل. أول مانزلت لأسفل، رأيت هذا المنظر. أترى كيف ظلموا الناس؟

الهيكل العظمي، وجدت معه جواب، كتبته له زوجته، ان قرأتَه تبكي “اعمل معروف، انت مابتنزلش أجازات ليه؟ أنا زعلتك؟…”وتطلب منه أن يأتي، وأنها في خدمته.

وكلهم أهاليهم بعثت لهم بجوابات، ربما لم يبلغوا أهليهم بما يلاقون. ولم يتكلم عنهم أحد، وماتوا في سيناء، 1967.

وموشيه دايان كان قال انه يمكن أن يبيد الجيش المصري كله واستخسر الذخيرة. وكل شيء كان مكشوف أمامه بالطيران، تركهم يموتون من العطش. وكنت كي تعبر سيناء إلى الضفة الغربية، تمشي على علامات (كما في السفر)، وكانوا يقلبون لهم العلامات…

أما في السادس من أكتوبر 1973، وكانت علامات النصر كانت فرحة كبيرة، تدفع للثقة، والاطمئنان،

بينما نعبر ونحن في المياه في القارب المطاطي، نري النصر… رأيت بعيني الطائرات الإسرائيلية تنفجر في الجو، تمطرها صواريخنا المصرية من الضفة الغربية، دمرت كل النقاط القوية على القناة، وكان صوتها سيمفونية تبعث على الاطمئنان نحن في فرحة كبيرة، تغلفها الثقة.

من غرب القناة، إلى شرق القناة، العبور رأيت من حولي، في القارب كان “الله أكبر، تحيا السويس” وكل القوارب “الله أكبر، تحيا مصر”… وكل من عبر يسجد لله، في رمل سيناء، ويقّبِل الأرض،…

أول ما رأيت: الإسرائيلين لهم نقطة قوية (ساري، عليه كرسي) نقطة مراقبة، أول شيء ساعة الصفر، ناوله مدفع مصري، فَطَّبَّ هاويا البرج الإسرائيلي الرئيسي، ورأيناه بأعيننا، وكل بضعة كيلومترات يضعون نقطة مراقبة (حوالي كل 7 أو، 8 كيلومترات)… هكذا إلى السويس.

رأيت برج منهم، يطير في الهواء، قبل أن نعبر، بالعسكري اليهودي الذي عليه.

أما عن الطيران المصري يَضرب في تتابع ويعود.

السادات رحمه الله، دخلنا نفسيا للحرب، كنا لا نعرف انها حرب، (وربما ذلك وفر من طاقتنا، بالإضافة إلى اعتيادنا على الأمر قبل ذلك، وتدريبنا على ما طُلب منا، كل في مهمته). ان كنا نعرف انها حرب، سوف يحضر إلى ذهننا تلك السدود النفسية، عن النابالم وما إلى ذلك،…

ولكن كنا نعرف دورنا، وهو التدريب. والحمد لله، كان النصر،

أما عن جثث اليهود، كان ذكاء لم يسبق من أنور السادات، رحمه الله. جثث اليهود لم يعرف مكانهم إلّا المهندسون. كان لابد أن ندفنهم، وتم دفنهم في مكان نعرفه. وكل بضعة أيام – بعد وقف إطلاق النار – أنور السادات يلقي خطاب، أن أولادنا في سيناء وجدوا ثلاث جثث من الجنود الإسرائيليين، ونحن مستعدون أن نسلمهم للصليب الأحمر. وكان يسلمهم بمقابل، يقايضهم لتحرير فلسطينين. كل بضعة أيام يلقي خطاب، وأول ما يلقي خطاب نعرف – وكانت علامة – هيطلعوا عدد من الجثث.

جاءتنا أخبار أن هناك ضغط على سوريا، ولابد من تطوير الهجوم للجيش المصري يوم 14 أكتوبر ، وكانت هناك خسائر كبيرة لدينا ، لم نتقدم عن تلك النقطة التي وصلنا إليها.

أما يوم 16 أكتوبر يوم الثغرة، حاولت أن تدخل من عند الفرقة 18 (فرقتنا)، فؤاد عزيز غالي، والفرقة 18 ثلاثة ألوية مشاة، وكنا اللواء 163، وهناك لواءان منهم لواء 90 مشاة.

طلب منا رص ألغام بيننا وبين الفرقة الثانية مشاة ، وقد دخلت إلى الجيش الثاني، ونظام الجيش فرقة تقف، مسافة خالية، ثم فرقة ثانية، خط واحد. بين كل فِرقة وفِرقة، مسافة.

وكانت الثغرة، والأقمار الصناعية الأمريكية تصور لهم النقاط الضعيفة، وتدخلَت ونزلَت الدبابات هناك. حاولوا الدخول من عند فواد عزيز غالي، من ناحيتنا، لم يقدروا. وطلب منا فؤاد عزيز غالي أن نرص كل الألغام، بيننا وبين الفِرقة الثانية. وربما عرفوا أن هناك ألغام فبعدوا عن تلك النقطة.

نحن الآن في شرق القناة، وهناك رأيت بعيني، وكان معنا في اللواء سَريّة استطلاع، قائد السَّرية كان سويسي، اسمه الثاني علّام، وكان معي في ثانوي، وبعد وقف إطلاق النار كنا نذهب نقعد معهم. وأثناء الحرب وقبل وقف إطلاق النار كان هناك طائرة ضربَها سلاح الجو المصري، فهوت الطائرة، ومن بها (اثنان طياران يهود) نزلوا بالبراشوتات، صاحيين، وأول ما نزلوا – ولا يمكن أن أنسى – حاصروهم وأحضروهم لقائد السَّرية وكنت جالس عندهم. ومنهم علّام كان سويسي وكنت أجلس معه. جاء أحد الضباط من السَّرية، مسك الطبنجة يريد أن يقتلهم، فقالوا له لا، وأنهم قد أبلغوا هناك اثنان أسرى طيارين يهود، لابد أن نسلمهم أحياء، فطار رشده وقال أن اخوه في حرب 1967 دهسوه بالدبابة… وغضب الضابط وصمم ان يقتلهم، فحاوطه من حوله، لتهدئته قدر استطاعتهم، فقال لا يمكن، أنا أمامي أخي وقد دهسوه بالدبابات،

وكان أحد الطياران اليهود يفهم اللغة العربية، فهم انهم سيقتلونه – والثاني لايفهم شيء – فصار يبكي، وكان وسيما، أخرج صورة (وكانت من 1967، وأول مرة أرى صورة بالألوان)، قال “أترى، خطيبتني تنتظرني” وكان صورة له مع خطيبته، أكثر من صورة…

مرت أيام الحرب، الإسرائيليون تم مفاجأتهم، لم نرفع أي لغم إسرائيلي. كنا نرص ألغام، ونفتح ثغرة لجيشنا.

ومن بداية الحرب، إلى وقف إطلاق النار، الإمداد والتموين كان تمام، الأكل معلبات، تدفق متواصل، الحصار كله كان في الجيش الثالث، وكان الله مع الشيخ حافظ سلامة (السويس، بلد الصمود).

علِمتُ أن السويس بدأت محاصرتها، وكان حاصرهم اليهود، لا مياه ولا أكل، وكان لي زملائي ودفعتي، وكان اليهود يعطيك جركن مياه، مقابل جركن بنزين،

وكان هناك محل أحذية معروف، اسمه “محروس”، انفجرت به عين مياه، مياه نقية في الأرض، وإلى الآن موجودة، وإلى الآن أنزل السويس كنت أريها لأحفادي.

وكان يوزعها الشيخ حافظ.

وبعد وقف إطلاق النار عند نزولنا الأجازة (لأصل للضاهر، وهي منطقة وسط وجوارنا يهود) لابد أن نعبر إلى القنطرة، تأخذ مواصلة إلى الإسماعيلية، ومنها موقف أتوبيسات للقاهرة. ركبت أتوبيس إلى القاهرة، لأصل للضاهر، قابلوني بالترحاب وعرفوا اني كنت في الحرب،

وإستقبلتني رحمهاالله والدتي بالأحضان والبكاء، نمت في الأرض كي تسكت، وقبلت قدميها.

رجعت للكتيبة، والسادات يحل الأمور. وكل شيء أمان.

من 1971 إلى 1976 كانت فترة الجيش، وخرجت برتبة ملازم أول.

زر الذهاب إلى الأعلى