تحقيقاتمقالات

قـــراءة تفسيرية لسورة الضحى 3

بقلم الدكتور علاء الحمزاوى الاستاذ بجامعة المنيا

متابعه / ناصف ناصف

ــ بعد طمأنة النبي بإزالة السوءين وسوق البشارتين انتقل الخطاب إلى الامتنان بالنعم، وقد امتن الله على نبيه بثلاث نعم، وقد رتبها ترتيبا حسب حدوثها، فبدأ بنعمة المأوى، حيث قال له: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَىٰ} أي فآواك، وحُذِف ضمير المفعول للعلم به ومراعاة لفواصل الآيات، والمأوى هو المسكن والكفالة والرعاية، وهذا الامتنان يستدعي في الذاكرة امتنان فرعون على موسى بقوله: {نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ} إلا أنه جاء في مَعْرِض الذَّمِّ لموسى، إنما امتنان الله على النبي جاء في معرض التأكيد على أنه لم يتركه ولم يبغضه تكذيبا لمزاعم المشركين، فهو امتنان مـدح للنبي، فكأن الله يقول له: لم أتركك قبل النبوة فكيف أتركك بعدها؟! وجاء الإخبار في صيغة استفهام منفي لتأكيد الإثبات؛ إذ يقتضي أن يجيب المتلقي بالإثبات والإقــرار؛ فيكون المعنى مؤكدا، فالله يقول: ألم أجعل لك مأوى تأوي إليه؟ فيقول النبي: بلى يا رب جعلتَ لي مأوى، وهذه النعمة تذكير للنبي باليُتْم، حيث وُلد النبي يتيما، توفي أبوه قبل ولادته، وتوفيت أمـه في طفولته، فآواه ربـه من بداية حياته، فكفل له جـدَّه ثم عمَّه لرعايته وحمايته، ثم جعله أمينا محبوبا في قومه، فكان خير الفتيان وسيد الشباب، ثم آواه بخديجة فزوَّجه إياها فكانت نعم المأوى، ثم آواه بأصحابه في مكة، ثم آواه بالأنصار في المدينة، فكان فضل الله عليه عظيما.

ــ ثم انتقل إلى نعمة الهداية، فقال له: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَىٰ} أي فهداك، الضلال عدم الاهتداء إلى الطريق الصحيح حقيقة أو مجازا، عمدا أو خطأ أو حيرة، وقد ورد الضلال في القرآن بمعنى تعمُّد الابتعاد عن الهداية كما في قوله تعالى: {وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا}، وجاء بمعنى الخطأ اللامقصود كما في قوله تعالى: {وَغَدَوْا عَلَىٰ حَـرْدٍ قَادِرِينَ فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ} أي انطلقوا لحديقتهم على قصد منع المساكين من الثمار فوجدوها محترقة، فقالوا: قد أخطأنا طريقنا، وجاء الضلال بمعنى الجهل كقوله تعالى: {قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ}، وجاء الضلال بمعنى الحب الشديد الذي يُعمي ويُصمُّ، كقوله تعالى: {قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ}، ومستحيل أن يكون ضلال النبي شركا؛ لأن الأنبياء معصومون من الإشراك قبل النبوة، لكن قيل: إن النبي ضل في شِعاب مَكَّةَ فرَدَّهُ اللَّهُ إلى جَدِّهِ عَبْدِ المُطَّلِبِ، وقِيلَ: ضل في طريق الشام من عمه أبي طالب فرده الله إليه، وقيل: ضلاله بمعنى الحب الشديد لمعرفة الله فهداه الله إليها، وقيل: المعنى أن الله وجدك بين ضالينَ فاستنقذك من ضلالتهم، والراجح عندي أن ضلاله بمعنى الحيرة في الوصول إلى الحق؛ إذ كان النبي يرى أن هناك خالقا للكون مدبرا له جديرا بالعبادة ما جعله محتارا، فكان يذهب إلى غار حراء يتعبد دون يقين بالله، لكنه واثق من وجود إله عظيم معبود، حتى هــداه الله بنزول الوحي عليه، ويعضد ذلك قوله تعالى: {مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ} وقوله تعالى: {وإنْ كُنْتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الغافِلِينَ} أي قبل الوحي إليك، ومن الهداية أنه نقَّـاه من حظ الشيطان بشق صدره، وأبعده عن جميع أنواع المحرمات السائدة آنذاك حتى سماع المعازف.

ــ أما النعمة الثالثة فهي نعمة الغنى {وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَىٰ} أي فأغناك، العائل له معنيان: الفقير وكثير العِيال، وكلا التفسيرين مقبول في الآية، حيث كان النبي فقيرا فأغناه الله بمال عمّه أبي طالب ثم بمال زوجه خديجة ثم بدعم أصحابه ثم بدعم الأنصار ثم بغنائم المسلمين من الحروب، وفي ذات الوقت كان النبي أشبه بالأب للمسلمين الفقراء الضعفاء الذين كانوا يحتمون به فهو عائل لهم، وقد همَّشَه قومه، فأغناه الله بإسلام الأقوياء أمثال عمر بن الخطاب وحمزة عمه وخالد بن الوليد وعمرو بن العاص، حتى قال عمر ذات مرة: “أتُعبَد اللاتُ جهرا ونعبد الله سرا؟ فقال له النبي: حتى تكثر الأصحاب، فقال عمر: حسبك الله وأنا، فأنزل الله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}، وللحديث بقية.

زر الذهاب إلى الأعلى