أزعم أن هذا المقال أرهقني كثيراً ،فتحيرت فى اختيار شخصياته حيرة امتدت أياماً وليالى،واتسع مجال الاختيار ،وتنوعت مساراته، ثم لم أجد مفراً من وعد أنجزته بكتابة تلك المقالة،ولم أطق مقراً على أسماء بعينها فأتجاوزها إلى غيرها، ولست أدرى سبباً منطقيا لهذا.
إلا كلمة من كلم العوام هدأت من روعى ،محتواها ((اللى يخيرك يحيرك)).
فقررت إنهاء الحيرة ،والرسو على شاطئ أنتهى إليه.
غير أنى حدثت نفسى عن مقاييس الاختيار وأوانه ،فتحيرت ثانية.
وكلما وضعت مقياساً أعرضت عنه.
فقرّ الرأى على أسماء من القرون الأخيرة ،
ليس غمطاً لأبناء القرون الأولى ،ولا فراراً من سيرتهم ،ففيها من الإبهار والتفرد ،ما الله به عليم،ليس فى حقبة دون حقبة ،بل إنك واجدٌ فى كل طبقة من الطبقات ،من هو حقيق بذلك .
فمثلا لا حصرا :إذا اتجهنا إلى المؤلفين ،سنجد الشاطبى وابن مالك وابن الجزرى والسخاوى وخليل ،وهم أصحاب متون تسببت فى إحياء علوم واستبقائها،أبد الدهر،
وغيرهم كثير .
وسنجد البخارى فى شدة تحريه وصعوبة شروطه التى وضعها لنفسه لتقييد الأحاديث فى الجامع الصحيح ،لا سيما شرط (اللقاء).
وسنجد قوما آمنوا بقدرات أبنائهم فعملوا على أبنائهم عملا يذكر فيشكر ،
من أمثال أمهات البخارى والشافعى ومالك.
وسنجد قوما كانت مرافقتهم لبعض أصحاب القدرات الرائعة سببا فى علوهم وارتفاع ذكرهم ،مثل آن سوليفان معلمة هيللين كيلر .
ومثل سوزان زوجة دكتور طه حسين.رحمه الله.
ومثل ومثل ومثل .
الأمثلة كثيرة تتأبى على الحصر ،غير أننا نذكر مجرد نماذج لتكون شاهدا عما وراءها ودليلا على ما سواها.
يمكننى أن أذكر لك من أصحاب المهارات المتفردة أسماء كثيرة ،وحياتها شديدة الثراء،
مثل مدام كورى الحائزة على جائزة نوبل مرتين ،الأولى فى الكيمياء والثانية فى الفيزياء ، إلى جوار اثنتى عشرة دكتوراه فخرية من جامعات معتبرة ،وليس من جمعيات خيرية كما نرى فى هذا الزمن العجيب.
لقد أخذت مدام كورى هذه الدرجات والجوائز عن استحقاق ،كما يظهر ذلك من كتاب (هوس العبقرية)الذى يؤرخ لحياتها ومسيرتها،
ومما لفت نظرى في هذا الكتاب وأضحكنى ،أنه وهو يصف هيئتها شبهها بسمكة الرنجة الباردة لأنها كانت طويلة ومنحنية ويميل لونها إلى الصفرة.
(ما علينا):-
سأنوع النماذج التى اخترتها لك ،فأجعل منها ما هو خيالى متصور ،ولكن قصته ملهمة ،وفى مقابل المتصور المتخيل ما هو حقيقى وموجود .
وسأتخير إلى جوار ذلك نموذجين ،طال صبرهما وعظم أثرهما فى العالم كله إذا أنت رغبت أو فى العالم الإسلامى إذا أنت انحزت ،
ولا أظنك بعد عرض نبأ كليهما إلا مقرا بفضلهما معترفا بأثرهما ،حتى وإن غابت أسماؤهم عن الكثيرين ،أو حتى إن شُغل الناس عنهما بغيرهما.
وسنكتفي فى هذه المقالة بهؤلاء الأربعة ،
لئلا يطول المقال ،فيفوت المرجو منه،ولئلا ينسى بعضه بعضا.
……………………..
النموذج الأول (فروست):-
……….
وقد صورت السينما الأمريكية حياته عام ١٩٩٤،فى فيلم شديد الإمتاع اسمه(فروست جامب)،وتدور أحداثه حول فتى من أصحاب الإعاقة الحركية،ومحدود الذكاء للغاية ،آمنت به أمه فأحبته ،ورفضت كل الرفض أن يدرس فى المدارس الخاصة بأمثاله ومن هم على منواله،
فدفعت به إلى المدارس التى تتعامل بشكل طبيعى مع من خلت حياتهم من مثل ظروفه،
لقد كان انطوائيا ،وكان يستعمل جهازا فى قدميه يساعده على الحركة ويساعده فى المشى ،ولم يكن قد اتخذ صاحبا فى هذه المدرسة إلا فتاة تدعى (جينى)،أما سائر الطلاب فيعمدون إلى إيذائه بدنيا ،فلايجد وسيلة إلا الجرى والتهرب منهم ،وفى كل مرة يظهرون له أو يظهر لهم ،تصرخ فيه جينى ليركض فراراً منهم،فأدى به ذلك إلى سرعة العدو،والتخلص من الأجهزة المساعدة،وأصبحوا لا يدركونه ولو لاحقوه بالدراجة، فلما كبرت سنه وصار فى الثانوية ،عدوا خلفه بسيارة فجرى فاقتحم ملعبا لكرة الرجبى التي تعتمد على السرعة الرهيبة ،فدهش مدرب الفريق من سرعة هذا المقتحم للملعب ،ودُهش كذلك الجمهور ،فضمه المدرب إلى الفريق ،وبرزت مهاراته فى هذه اللعبة وصار من نجوم مجتمعه،
غير أن حرب فيتنام قد قامت ،فتم تجنيده فيها ،وأثناء الحرب لم يصاحب إلا زنجيا يدعى (بوبا)،وشاءت المقادير أن يقعوا فى كمين للمقاومة ،وأن تنصب عليهم النيران من كل جانب ،وأصيب بوبا الذى كان يحلم ،بأن يكون صاحب مركب لصيد الجمبرى،وشاءت الظروف أن يبحث عنه فروست وسط الأحراش لينقله إلى مكان آمن،فسمع أنينًا فأنقذ صاحبه،وعاد وفى كل مرة ينقذ مصابًا ،وتكرر هذا الأمر ست مرات ،وفى الأخيرة عثر على بوبا فحمله لينقذه غير أن إصابته كانت شديدة فمات سريعا فبكاه فروست بكاء مراً،
وأصيب فروست هو الآخر ،فاحتجز بالمستشفي وطال فيها بقاءوه ،وفيها تعلم لعبة تنس الطاولة وبرع فيها حتى صار لاعبا استعراضيا فيها ،ولما انتهت الحرب العالمية الثانية اختير ضمن الفريق الأمريكى المسافر لأداء مباراة استعراضية في الصين بعد عودة العلاقات بين البلدين،
ونتيجة لهذه المسيرة نال وسام الاستحقاق الوطني ثلاث مرات من ثلاثة رؤساء أميركيين لبراعته فى الرجبى ،حتى صار ضمن المنتخب الوطنى،وعلى جهوده فى انقاذ المصابين فى حرب فيتنام ،وعلى براعته فى التنس ولفت الانتباه فى المباريات الاستعراضية التي أقيمت في الصين.
ثم جمع فروست المبالغ المادية التي أمكنه ادخارها ،وأنشأ شركة من مركب واحد لصيد الجمبري ،وأطلق على المركب اسم (جينى) وعلى الشركة اسم (فروست -بوبا)،وجعل لأسرته سهما فى أرباح الشركة،يسلمه لهم أولا بأول،
غير أن فروست لا يعرف الصيد،لكنه انضم إليه ضابط مصاب ممن أنقذهم فى حرب فيتنام ،ليس بغرض الصيد ،لكن بقصد الانتحار،وصادف أن جاء إعصار وهرعت المراكب إلى الميناء ،إلا هذه المركب الصغيرة لرغبة الضابط في الانتحار، غير أنّ الأقدار شاءت تحطم كل المراكب الراسية فى الميناء ، ولم تنجُ إلا هذه، وجادت الشباك بالكثير من الجمبرى،وصار يصيد وحده مدة من الزمن بعد أن تلفت كل المراكب إلا مركبه، مما حمله على التوسع حتى امتلك اثنى عشر مركبا ،أطلق عليها كلها اسم جينى ،التى قُدر له أن يلقاها بعدُ مع ابنها الصغير ،فرآها بائسة مدمنة مطلقة،فآواها وتزوجها،ولم تلبث إلا يسيرا وماتت،فاعتنى بابنها أشد عناية،ورعاه أوفى رعاية،
وقد تعجب أيها القارئ من تلك القصة ،التى أحسن الفيلم الاجتماعى فى إخراجها للناس على أروع ما يكون الإخراج،
والمستفاد من القصة،أن بعض الحيوات قد تكون عجيبة التفاصيل ،شديدة التأثير ،وفيها نموذج حى لتصاريف الأقدار ،
حتى إننا لنعجب أحيانا أشد العجب ،من هطول الأرزاق،لمن نراهم دوننا فى الملكات والقدرات،
حتى إن عوامّ المصريين صاغوا هذه الحالة من التعجب بعبارات فيها على عاميتها من روعة التصوير البلاغى ما فيها ،
فقالوا مثلا:(يدى الحلق للى بلا ودان).
وقالوا أيضا (يعطى الأهبل لما العاقل يستعجب).
وقالوا كذلك (يرزق الهاجع والناجع والنايم على صرصور ودنه)
وهى عبارات تشى إلى جوار ما أرادته من معانى ،بمعانى أخرى تلتقى كلها عند مناقضة ما قالوه ،للإيمان الصحيح.
ولو ردوا أمثال هذه الظواهر إلى قول الله تعالى فى الحديث القدسي ((إنى أدبر عبادى بعلمى ،إنى عليم خبير)).
لكان أهدى سبيلا،وأقوم قيلا.
وقد وثق أستاذنا الفاضل عبد الوهاب مطاوع رحمه الله ،قصة فيلم فروست جامب بتفاصيل أوسع فى كتابه الرائع (عاشوا فى حياتى).
وهو فيلم يستحق المشاهدة ،
وعن نفسى رأيته واستمتعت به مرتين.
…………
النموذج الثانى:-
ميكو موتو:-
…………
وقصة هذا الرجل حقيقية فى كل تفاصيلها ،ملهمة فى كل أجزائها ،رائعة فى كل أطوارها ،
فهى على النقيض تماما من قصة فروست،ليس من جهة الإمتاع ،بل من جهة كونها حقيقة لا خيالا.
وتتلخص قصته الملهمة فى أنه كان فقيراً محدود التعليم ،واحترف بيع الأرز المسلوق ،وتزوج امرأة أوسع منه رزقا وأيسر منه حالاً، وامتهنت هى الأخرى مهنته.
فأراد تحسين دخله فامتهن صيد الأسماك إلى جوار عمله الأصلى،
وطرأت على ذهنه بعض الأسئلة وهو يصطاد الأسماك ،
لماذا يوجد اللؤلؤ فى القواقع دون غيرها؟
ولماذا فى بعض القواقع دون بعض؟
فبدأ بمراقبة القواقع التي يحتاج نمو الواحدة منها من سنتين إلى ثلاث سنوات ،
وقرر ألا يكون أقل صبراً من القواقع،بل سيكون أطول صبراً،وأدوم مراقبة،وأعمق منها ،ليس فى الماء ،بل فى الفكر والمعرفة بأسرارها.
إنه قرر محاولة زراعة اللؤلؤ ،وهى عملية نحن هاهنا فى غنىً عن ذكر تفاصيلها المركبة،
لكن فى أبسط تصوير لها نستطيع القول :بأنها تشبه إلى حد كبير عملية التلقيح الصناعى عند الإنسان ،عندما يتم وضع المنى فى الرحم ،بطريقة طبية ما ،عبر الأنابيب،
حاول الرجل وانتظر عامين ،وماتت كل القواقع،فجمع عشرة آلاف قوقعة وانتظر فماتت جميعا،ولم ييأس ،حتى بعد أن خسر زبائنه الذين يبيعهم الأرز المسلوق،على عربة يد فى قرية تبعد عن طوكيو ١٣كيلو مترا،
واتهمه الزبائن بالفشل والجنون، فترك بيع الأرز لزوجته،وكرر المحاولات لمدة امتدت خمس عشرة سنة،
فبارت تجارته،ونفقت سلعته،أو كادت.
وفى محاولة بائسة زرع خمسة آلاف قوقعة،وأعلن لزوجته وللناس يأسه،وخطأه ، ربما ليصرفهم عن نفسه، لكن زوجته كانت مؤمنة به،فذهبت سراً إلى الشاطئ واستخرجت قوقعة فوجدت فيها اللؤلؤ ة بتاريخ ٢٨-٩-١٨٥٩م،وأصبح يوم ٢٨من كل شهر أجازة فى جميع فروع شركته،التى أسسها بعد ذلك ،ولكل الموظفين.
وكانت حبات اللؤلؤ هذه نصف دائرية،ولم تكن كُرية الشكل،
وذهب الرجل إلى أميركا للدعاية لهذا اللؤلؤ المزروع ،فقابل هناك المخترع أديسون فقال له:-
لقد حققت معجزة علمية.
فرد ميكو بقوله:-
(أنت أضأت العالم،وأنا أضأت أعناق النساء،وإذا كنتَ فى دنيا الاختراع قمراً كاملاً،فأنا أحد النجوم التى ليس لها عدد،)
فبكى أديسون عند سماع هذه العبارة.
فقال له ميكو موتو وهو ينظر إلى دموعه:-
(لقد رأيت أعظم لؤلؤتين على خد إنسان).
واتجه موتو بعد ذلك إلى: دراسة كيف يجعل اللؤلؤ دائرياً ومكتمل الشكل؟
ونجح وبدأ الانتاج بشكل واسع لدرجة أنه استأجر جزيرة كاملة لزراعة اللؤلؤ ،حتى وصل عدد القواقع المنزرعة فى الدورة الواحدة عشرين مليونا،
وظل يطور الزراعة حتى أمكنه زراعة لؤلؤتين وثلاث فى القوقعة الواحدة ،
وبدأ التحكم بأحجامها ،ومن العجيب أن القواقع المريضة يخرج لؤلؤها أسوداً، وهو أندر الأنواع وأغلاها.
كأن الطبيعة تريد أن تعوض هذه القوقعة عن مرضها.
وعندما اغتنى وصارت ثروته بالملايين ،ذهبت إليه الجمعيات الخيرية تطلب معونتها،
كان رده عليهم:-
(أريد أن أعرف اسم الجمعية التى كانت تساعدنى فى محنتى ،لقد ماتت التى كانت تساعدنى)
يعنى زوجته.
وقد عاش بعد وفاتها ثمانية وخمسين عاما ،ولم يتزوج.
وعمل لديه ١٨٠ألف موظف في جميع فروعه.
ولما ضربت أميركا اليابان في الحرب العالمية الثانية ،
رفع علمها على جزيرته ،بعلة أنه يخدم وطنه بطريقته.
يريد بهذا ألا يتم تسريح الموظفين ،وقطع أرزاقهم،
وألا يستولى المحتلون على مهنته وحرفته،وشركته.
وقصة الرجل بكل تفاصيلها وأفراحها وأحزانها ،
كتبها الأستاذ أنيس منصور
رحمه الله فى كتابه البديع
(حول العالم فى ٢٠٠يوم)
وهو كتاب فى أدب الرحلات ،
وإنى لأعده أحد أروع كتب أدب الرحلات على مرّ العصور.
وربما يراه غيرى بعين أخرى،
وخلاصة قصة ميكو موتو أول من زرع اللؤلؤ فى العالم:-
من جدّ وجد.
ومن زرع حصد.
………………
النموذج الثالث
محمدفؤاد عبدالباقى
……………….
وهو نموذج يمكن تصنيفه على أنه نموذج علمى ،أو فنى .
والأوفق أن يقال:-
(إنه هما معا).
إنه فاتح الصناديق العلمية المغلقة،بمفتاح ليس من صناعته،ولكنه كان آلته،
وكما فتح شامبليون بمثابرته مغاليق اللغة المصرية القديمة(الهيروغليفية).
جاء محمدفؤاد عبدالباقي رحمه ورضى عنه،بل جيئ له بكتاب وضع بين يديه ،وطلب إليه أن يترجمه.
وتبدأ القصة فى أكتوبر ١٩٢٨.
عندما حملت الأخبار السيارة نبأ خروج كتاب فى أوربا للمستشرق
(ونسنك دى)ويقال (فنسنك دى).عنوانه:-
مفتاح كنوز السنة.
باللغة الانجليزية.
فأرسل العلامة أحمد شاكر رحمه الله ،فى طلبه.
وما إن وصله،واستعان ببعض من يعرف اللغة الانجليزية ،حتى أوصى أخاه محمود رحمه الله بحيازته ،ففعل.
وبهذا وجدت نسختان للكتاب بمصر حرسها الله.
ولك أن تعرف أن مؤلفه عكف على تصنيفه عشر سنوات.
وأنه كان ابتكارا فريداً في عالم المعاجم ،إلى جوار كتاب المعجم المفهرس لألفاظ الحديث الشريف،
والذى شارك ونسنك أو فنسنك
فى تأليفه كذلك.
غير أن الكتاب الأول أحفل وأرفع وأكثر نفعا.
وتكفي شهادة السيد محمدرشيد رضا رحمه الله ،
فى الكتاب،إذ يقول فيه:-
لو وجد بين يدىّ مثل هذا الكتاب لسائر كتب الحديث ،لوفر علىّ أكثر من نصف عمرى الذى أنفقته فى المراجعة،
فلو كان لدى هو أو مثله،من أول عهدى للاشتغال بكتب السُنة،لوفر على ثلاثة أرباع عمرى ،الذى صرفته فيها.
ويا لها من شهادة لخِرّيت تنبيك عن الكتاب،
الذى صنعه مؤلفه فى عشر سنوات حوامل كوامل ،لأنه فى فن لم تكن قد ثبتت قواعده،حين تأليف الكتاب.
والكتاب عبارة عن فهرس لثلاثة عشر كتابا من كتب السنة الشريفة.
وهو كتاب رآه أحد أصدقائي يوما،ولم يكن يدرى ماهيته،
فقال ممازحاً:-
ظننته من كتب السحر.
وربما أنطقه الله ببعض الحق فى هذه المزحة.
فقد فعل الكتاب فى المتخصصين ،فعل السحر من دهشتهم ،ومن شدة اختصاره مع عظيم إعانته وروعة إحاطته.
حتى إنه ليدلك بطريقة مبتكرة فى حين نشره ،وشديدة التيسير،على جميع مواضع الحديث فى الكتب الثلاثة عشر التى ضمها بين دفتيه ،مهما بلغت رواياته كثرة،واختلافا في لفظه.
فأسدى هذا الكتاب لعلم التخريج أثمن هدية وأنفسها.
فنسب إلى العلم من هذه الجهة.
ونسب إلى الفن من جهة ترجمته،
والتى استمرت أربع سنوات ،من شدة التدقيق فى المعانى،ومن كثرة التحرى للمواضع التي ذكرها،فى الطبعات التي استعملها واعتمدها.
ومع أن للأستاذ محمدفؤاد عبد الباقى رحمه الله ٣٣ كتاباً ،إلا أننى أرى أن أنفعها للأمة والباحثين ،هو هذا الكتاب الذى كان حظه منه الترجمة.
ويليه كتابه المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم والذى صنعه على عينه ،والذى انتهى من مسودته الأولى فى أغسطس١٩٣٨م -وأتم تبييضه ومراجعته مراجعة نهائية على المصحف الشرف قبيل مغرب شمس يوم السبت ١٧-٢-١٩٤٥.
فأسدى بهذا الكتاب أيضاللبحوث والباحثين ،فى دقة متناهية ،وسرعة أكثر تناهيا ،خدمة ومعروفاً لا ينكرهما منصف،
وجملة القول في الكتابين:
أنه لا يصح خلو مكتبة باحث منهما،
وأن فيهما من الدقة ما يحمل الكمبيوتر،على الغيرة منهما ،ومن محمدفؤادعبدالباقى رحمه الله.
………….
النموذج الرابع
لبيب السعيد:-
………………..
ليس فى المسلمين رجل ،إلا وهو مدين لهذاالمحاسب الذى كان يعمل مراجعاً في هيئة الاستيراد.
وفرض عين عليهم أن يحبوه ويوقروه.
ذلك لأنه طوّق رقابهم جميعا بفضله.
ومنح الله مصر على يديه منقبة ومكرمة تُدل بها على جميع البقاع أبد الدهر.
فى منتصف القرن الماضى (القرن العشرين).
لاحظ الأستاذ لبيب السعيد رحمه الله ،أن المجيدين من حفاظ القرآن الكريم يتناقص عددهم بالوفاة،كما لاحظ سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه من قبل تناقص الحفاظ بالاستشهاد فى حروب الردة.
فخشى لبيب مماخشى منه عمر.
فرأى رأيا يشير بجمع القرآن الكريم ،كما أشار عمر من قبل.
لكن بطريقة مبتكرة تناسب الزمان والأوان.
ففكر وقدر.
واهتدى إلى جمعه جمعاً صوتيا،
وأعد لهذا المقترح خطة محكمة ،آمن بها وبنفعها.
غير أنه عند إعلانها فى جمعية المحافظة على القرآن الكريم ،اعتُرض عليها،كما اعترض على مقترح عمر من قبل،
ودافع كلاهما عن مقترحه ،حتى وقع لكليهما ما تمناه.
أما ما كان من جمعه مكتوبا بمشورة سيدنا عمر،ثم ما كان من جمعه فى عهدسيدنا عثمان،فقد ذاع واشتهر.
وما كان من جمعه صوتيا ،فمعلوم أيضا ،لكنه فى حاجة إذاعة أوسع.
……….
كان لبيب حافظا للقرآن متقنا لأحكامه مستوعبالقراءاته،وهو ما مكنه من الحكم على ما يسمع.
فلما عرض مقترحه ، لم تكن ثمّ معارضة محضة، ولا موافقة تامة،
وقد حمل لواء المعارضة الشيخ أبو زُهرة رحمه الله ،ونشر آراءه،فى صحيفة الجمهورية.
ولم يزل به لبيب السعيد حتى شرح الله صدره للذى شرح له صدر لبيب.
ولا يقدح هذا الاعتراض فى الشيخ أبى زهرة ،كمالم يقدح اعتراض سيدنا أبى بكر فيه.
بل المشاهد أن الأمةأحسنت استقبال فعل لبيب السعيد ،كما أحسنت من قبل استقبال فعل سيدنا عمر.
وعرف الناس للمقترح خطره وجلاله، واحتضنه صاحبه وفيا له غاية الوفاء،لكنه غير قادر على تكاليفه المادية.
فعرض على أحد الأثرياء المقيمين بالقاهرة التمويل فرفض،فرجع لبيب الحيىُ إلى بيته حسيراً كسيرا ،فاقترح عليه بعضهم أن تمول وزارة الأوقاف مشروعه ،فوافق الأستاذ أحمد طعيمة (رحمه الله)وزير الأوقاف يومئذ على تمويل المشروع كاملا.
وكان مقدرا للنسخة الصوتية الواحدة المكونة من ٤٤أسطوانة أن تتكلف٢٢جنيها مصريا ،فطلب لبيب السعيداستصدار قرار جمهورى بإعفاء مستلزمات الطباعة من الرسوم فصدرالقرار،وانخفض عددالأسطوانات إلى ٢٨أسطوانة،وانخفض سعرنسخة المصحف إلى ٢جنيه فقط.
وجاءت موجة جديدة من الاعتراض على بعض أوجه القراءات ،كان رائدها هذه المرة الإمام الأكبر الشيخ عبدالحليم محمود رحمه الله ،
ولم يزل به لبيب السعيد حتى شرح الله صدره بأن المصالح المرسلة تقتضى ذلك.
و طرح المشروع كفكرة عام ١٩٥٩م.
وصار واقعا ملموساً و مرئيا للناس فى ٢٣يوليو١٩٦١م
فى العيد التاسع للثورة.
ورأى الناس لأول مرة وسمعوا أول تسجيل صوتى كامل للقرآن الكريم.
بصوت الشيخ الحصرى رحمه.
واختير القارئ بعناية ،وبشروط غاية التحرى ،وروجعت بروفات التسجيل مرات عديدة ،من المهرة بالقرآن أمثال الشيخ عامر عثمان والشيخ عبدالفتاح القاضى ،رحمهمااالله.
وبلغ عدد النسخ الصوتية الكاملة عام ١٩٦٣م -٤٤ألف نسخة.
وبعد عدة أعوام ألح أحد أصدقاء لبيب السعيد ،عليه ليوثق المشروع بكل تفاصيله فى كتاب ليكون وثيقة تاريخية بيد صاحب المشروع،ليدون الأحداث كما وقعت ،فامتنع مخافة تسلل الرياء إلى عمله،ومخافة تسرب الإعجاب إلى نفسه،
ففعل وكتب كتابا ضافيا ،وسفراً ماتعا ،روعيت فيه أصفى مراتب التحقيق والتدقيق وأعلاها، حتى فى هوامش الكتاب التى بلغت ألفين،
وتكشف مع أصل الكتاب ليس عن محاسب ،وإنما عن عالم مكين فيما يتعلق بعلوم القرآن الكريم.
وطبع الكتاب لأول مرة فى المجلس الأعلى للشئون الاسلامية.بعنوان :-
(الجمع الصوتى الأول للقرآن الكريم)
ثم كثرت طبعاته وتتابعت ،كما كثرت وتتابعت النسخ الصوتية للقرآن الكريم.