تقاريرثقافةعاجلفن

في ساحة بتهوفن

بقلم/ هنيبعل كرم

أقفُ هنا بعدَ عمرٍ مضنٍ، وسطَ ساحةٍ يملؤها الحَمام. الحمامُ اللطيفُ الذي لا يخشى أقدامَ العابرين، الحمامُ الذي تهشُّه لترى جناحاتِه، فيبتعدُ مسرعًا ليعودَ كالذّبابةِ التي تصيبُك بالجنونِ وتدفعُك إلى الرّغبةِ بقتلها بمدفع.أقفُ وسطَ هذه السّاحةِ الباردةِ أتأمّلُ مشاهدَ الكسلِ في عقاربِ السّاعاتِ على مقاعدَ خشبيّةٍ. تلفتُ انتباهي صورةُ امرأةٍ حُبلى، وصبيٌّ ينطُّ وراءَ ظلّه لالتقاطِ بالونِه الأحمر.أرتاحُ لتلك الأناقةِ الشّهيّةِ التي تنقر الرّصيف وقد اجتمعتْ في قدميّ امرأةٍ غريبةٍ. بالأمسِ، وعلى بُعدِ أربع ساعاتٍ، خرجتُ من الترابِ، من الغبارِ، من الرّكامِ، من الدّخانِ، من رائحةِ البارودِ ووجعِ الأشياء.أتساءلُ بأيِّ عينٍ أنظرُ إلى جسدي يحتلُّ مكانًا استقبلني برحابةِ صدرٍ بعيدًا عن الاحتلالات والفتوحاتِ والحملاتِ الصّليبيّةِ…كلُّ المقاتلين هاجروا، فتحوا “حساباتِهم” على “الفايسبوك”، غيّروا تسريحاتِهم “الثّوريّةَ” ولباسَهم وعطورَهم، وابتسموا على مضضٍ كأنّ الحياةَ هنا تدعوهم إلى ماضٍ مريرٍ هناك… ألصقوا “السّيلفي” على صفحاتِهم المزدانةِ بالموضةِ وأدواتِ “السّلام”، وانتظروا خلفَ متاريسِ الشّاشاتِ مزيدًا من “اللايكات”.كلُّ المقاتلين من جيلي هاجروا إلى البلدانِ التي أعلنوا الحربَ عليها، مسَّدوا شعورَ زوجاتِهم المرهفَ، وأعلنوا اللعنة على ذلك الجحيم حيث التّرابُ يحرقُ الأوكسيجين. إنّ لاحتراقِ السيجارِ نكهةٌ مشتهاة. “اللعنةُ على قائدِ الفرقةِ السّابعةِ الذي وعدناه بأن نسيرَ وراءَه إلى الموت! لن نتلقّى الأوامرَ بعد اليومِ إلا من طبيبِنا النّفسيّ”.كلُّ الصّورِ بالأبيضِ والأسودِ تجري هنا كقطارٍ سريع، وسطَ ساحةٍ “بيتهوفن” في “بون”، والحمامُ يملأ البطونَ من فضلاتِ المارّةِ وبقايا أيّامِهم تحتَ شمسٍ تظهرُ وتختفي كلّما مرّت في الذّاكرةِ أصواتُ الطّائرات، وأقدامُ الجنودِ وغيومُ الدّخانِ فوق سطوحِ الحرب العالميّة الثّانية…كلُّ الصّورِ بالأبيضِ والأسودِ تجري وتردّني إلى بيروتَ التي استسلمتْ لمرفأ ودّعَ الضّحايا قبل الانفجارِ ومضى بزورقِ نجاةٍ مربوطٍ إلى صخرةِ الغيم. كلّ الصّورِ بالأبيضِ والأسودِ تطنُّ مثل نحلٍ بريٍّ في جذعِ زيتونةٍ غرسَها قبل الحربِ جدّي، وقبل أن يحرقها رعاةُ الماعز: القمامةُ فوقَ الأرصفة، أبوابُ الدّكاكين المقفلة، بقايا الرّصاصِ في الجدرانِ، والكتاباتُ الثّوريّةُ كندوبٍ تشِمُ ذاكرةَ مَن مرّوا من هنا يومًا إلى مكان ما…كنتُ كالأبله، أقفُ وسطَ ساحةٍ بلهاءَ على الرُّغم من الموسيقى الخارجة من شقوق الطّاولاتِ الخشبيّة حول تمثال “بيتهوفن”، وعلى الرّغم من التّرتيب الشّديد، والنّظام البهيّ الذي يطال حتّى إيقاع الشّهيقِ والزَّفير… وكان العالمُ من حولي يدورُ كزوبعةٍ، لتوقفَ الدّوارنَ على غفلةٍ عجوزٌ مات زوجُها إلى جانبِ “هتلر” في برلين. تلكزني بعصا المظلّة وتقول:”ابتسم،تعلّمْ أن تبتسمَ وأن تذوّبَ همومَك الوجوديّةَ في كوبِ “الكابوتشينو”،تعلّمْ أن تلوكَ موسيقى الوطنِ بقلبٍ مريضٍ، وابتسمْ لذاك الهراءِ الذي تراه في عقاربِ السّاعاتِ على المقاعدِ الخشبيّةِ…ابتسمْ، وتعلّمْ…ابتسمْ كي يخرجَ التّاريخُ منكَ إلى التّاريخ.

زر الذهاب إلى الأعلى