متابعة / ناصف ناصف
ــ الوطن هو المكان الذي ينتمي إليه الإنسان ويوصف به وإن لم يولد فيه، والمواطنة هي أن يشعر المرء أن الوطن ملكه فيحافظ عليه ويدافع عنه، وأنه جزء من المجتمع الذي يعيش فيه بصرف النظر عن دينه أو لونه أو عرقه أو مذهبه بما يجعله مندمجا في المجتمع متفاعلا معه بشكل إيجابي، وأن يتمتّع بشكل متساوٍ مع بقية المواطنين بالحقوق والواجبات كحقه في الأمن والصحة والتعليم والعمل وحرية التنقل والتعبير والمشاركة السياسية، وتولي المناصب والمساواة في تكافؤ الفرص، والتزامه بتحمّل المسؤولية واحترام النظام والحفاظ على الممتلكات العامة والخاصة والدفاع عن الوطن والمشاركة في بناء الدولة والارتقاء بالمجتمع.
ــ هل عرف الإسلام “المواطنة”؟ لم يعرفها اسما ولا مصطلحا، إنما عرفها مفهوما وتعايشا، فأقـــــرّ التعددية الجنسية واللونية، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا}، وأخبر النبي أن جميع الناس سواسية، فسلا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى والعمل الصالح، وسوّى الإسلام بين جميع المواطنين في جزاء النفع والإضرار بالمجتمع، قال تعالى: {مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا}، وأكــد القرآن على “مواطنة الدولة” في قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ}، فلم يذكر اسمه مع أنه العزيز، إنما عرّفه بدولته، وهي مصر؛ ليرسّخ فينا قيمة “مواطنة الدولة”، كما رسّخ القرآن فينا قيمة “مواطنة الأرض” من خلال مقولة فرعون لموسى: {أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى}، وهذا يقودنا إلى القول بأن المواطنة غريزة فطرية في الإنسان، ولا وجود له بدون وطن.
ــ ودعا الإسلام إلى البناء والتعمير، قال تعالى: {هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا}، ففي هذا التوجيه تكليف للإنسان بالعمل لإعمار الأرض والحفاظ على خيراتها واستثمارها، فذلَّل الله له الأرض لتحقيق الإعمار، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِه}، وهذا من أعلى مظاهر المواطنة.
ــ كما دعا الإسلام إلى الزراعةِ وتشجيرِ الأرضِ منعًا لتلوّث الجـو والانحباس الحراري ونشرا للخير والرزق وزيادة الخُضْرة الباعثة على زيادة الأكسجين، فقال النبي: ”مَا مِن مسلمٍ يغرسُ غرسًا أو يزرعُ زرعًا فيأكلُ منه طيرٌ أو إنسانٌ أو بهيمةٌ إلّا كان لهَ بهِ صدقة“، وقال: ”إنْ قامتْ الساعةُ وفي يدِ أحدِكُم فَسِيلة فإنْ استطاعَ أنْ لا تقومَ حتّى يغرسَها فليفعلْ“.
ــ وتُعــدُّ الصناعة أعلى مظاهر السعي للإعمار والتقدم، فهي أهــمّ مرتكزات بناء الوطن والارتقاء بالمجتمع، فلا يمكن لأمَّـة أن تتقدم بدون الصناعة؛ لذا أشاد القرآن بقيمتها، فجعل إحدى سوره باسم {الحديد}؛ ليلفت الانتباه إلى أهمية هذا المعدن في إقامة الصناعات التي تنهض عليها الأمم، ومدح صناعة آلات الوقاية من كل ضرر وأذى، قال تعالى: {وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحــرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ}.
ــ وظهرت المواطنة في بنود “الصحيفة المدنية”؛ حيث نصت على “حرية العقيدة” و”العدالة والمساواة” في الحقوق والواجبات لجميع مواطني المدينة مسلمين وغير مسلمين، فكانت الصحيفة هي القاعدة الأساسية لمبادئ المواطنة في الإسلام، كما ظهرت المواطنة في دعاء النبي للمدينة ”اللهم اجعل بالمدينة ضِعْفَي ما جعلت بمكة من البركة، اللهم حَبِّبْ إلينا المدينة كما حببت إلينا مكة أو أشد“ فاستجاب الله له فبارك في رزقها، وغرس في قلبه حبها، فكان يحبُّها حبّا عظيما لدرجة أنه كان يُسرُّ عندما يرى معالِمَها وهو عائد من السفر.
ــ وفي المقابل نهى الإسلام عن التخريب والإفساد، فقال تعالى: {وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ}، {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا}، وذمَّ الله التخريب والمخربين في قوله تعالى: {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ}، كما جــرَّمَ الإسلام إراقةَ الدماءِ بغيرِ حــقٍّ، وحرَّمَ الاعتداء على الممتلكات العامة والخاصة، فقال تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ}.
زر الذهاب إلى الأعلى