مقالات

لغه الجسد وقصص الأولين

بقلم / إيمان الغندور

بهلول رجل عاش في العصر العباسي، وله نوادر تصفه بالجنون، أتاه أحدهم ذات مرة يريد أن يعبث به فقال: «يا بهلول! إن أمير المؤمنين قد أمر لكل مجنونٍ بدرهمين»، فأجابه بهلول على الفور: «أفأخذتَ درهميك؟!»
جوابٌ مضحك مفحم! من أكثر الكتب التي عشقتها في صغري كتاب نوادر من التاريخ، سلسلة من الطرائف التي أتت في حياة العرب القديمة، فيها الأجوبة المفحمة وعجائب القصص وطرائف الطفيليين ومحاسن الحكمة ولطائف الأدب، لكن ينقص تلك القصص القديمة شيء واحد: لغة الجسد.
أتساءل عن تلك القصص والطرائف، لو أننا رأيناها مباشرة بكل ما فيها من تعابير وجه ونبرة صوت ولغة جسد وردود فعل، هل سيكون لنا نفس الرأي الذي نشكّله من قراءة خلاصة نصية لها مجرّدة من تلك العوامل المهمة؟ خذ مثلا الأجوبة المفحمة، تيار من القصص الحوارية التي تناقلها العرب إعجابا بقوة الجواب وإسكاته للخصم، كيف لو رأيناها؟ أظن الكثير منها سيكون أقرب إلى جدل مستمر، ولكن يقتطع السامع جزءا أعجبه ويقرر أن الحوار انتهى هنا لأن الإجابة قوية في رأيه وأسكتت الخصم، لكن نعرف أن البشر لا يسكتون بهذه السهولة! واللسان البشري إذا أخذ ينافح عن صاحبه لا يتوقف، ويستمر في الجدل والتراشق إلى آخر لحظة ممكنة.
رأيت بعض هذه المواقف، فيحصل بين اثنين خلاف ويتقاذفان الحجج، ثم لو أنك استمعت لوصف للموقف من شخصين مختلفين لرأيت صورتين متعارضتين، الأول مثلا يروي لك أن «أ» أفحم «ب» لأن «أ» قال شيئا استحسنه السامع فحكم أنه المنتصر، ولكن صديقك الآخر يخبرك أن «ب» رد على «أ» بجواب أقوى وأفضل فهو الذي أفحمه، وهي عبارة تجاهلها الأول إما تحيزا أو لم ينتبه لها أو رأى أنها أقل جودة، فلو أن الأول كتب القصة في كتابه لكانت متضادة مع النسخة التي يكتبها صديقك الآخر. وقد يصمت «ب» ازدراءً لكلام «أ» الذي فيه سفاهة، فيحكم أحد الحاضرين أنه سكوت هزيمة بينما هو سكوت ترَفُّع.
بعض القصص الطريفة ربما رافقها لغة جسد ونبرات صوت عدوانية غاضبة، لو أنك رأيتها لوضعتها كقصة جادة يغضب فيها أحدهما من الآخر لِحمرة وجهه وتوتر صوته وعصبية ذراعيه، لكن استخلاص الكلام الذي قيل فقط وتجاهل لغة الجسد يجعلها طريفة.
كم قصة وطرفة ستتغير لو أننا رأينا سياق الموقف ولغة الجسد؟

زر الذهاب إلى الأعلى