اخبارتحقيقاتتقاريرمحافظات

قــراءة في آيات الحج والعمرة 3 بقلم الدكتورعلاءالحمزاوى الاستاذ بجلمعة المنيا

متابعة/ ناصف ناصف

ــ من تلك الآيات قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ}، واختلف العلماء في المراد بالإتمام، فقيل: الإتمام بمعنى الأداء، أي أدُّوا الحج والعمرة كقوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ}، وعلى هذا فالعمرة واجبة كالحج، وقيل: المراد إخلاص النية للحج والعمرة فقط، وليس للتجارة أو غيرها؛ حيث كانت العرب تقصد الحج للاجتماع والتفاخر وقضاء الحوائج وحضور الأسواق دون أن يكون لله فيه حظ يُقصَد؛ ومن ثم جاء قوله: {لله} تأكيدا على إخلاص النية لله بعيدا عن الرياء، وقيل: المراد بالإتمام أن يكون الحج من المال الحلال؛ فهو شرط لقبول العمل الصالح مطلقا والحج بشكل خاص، وقيل: المراد بالإتمام الامتثال لأوامر الله ونواهيه، فهو واجب في كل الأحوال وللحاج والمعتمر والصائم أوجب، وقيل: المراد إتمام المناسك من أركان وواجبات وسُنن، وأَرْكَانُ الْحَجِّ أربعة عند بعض العلماء وخمسة عند الآخرين، فكلهم متفقون على “الإحرام والوقوف بعرفة وطواف الإفاضة والسعي بين الصفا والمروة”، وهم مختلفون في “الحلق أو التقصير”، فبينما عـــدَّه بعضهم ركنا عــــدَّه الآخرون واجبا، والفرق بين الركن والواجب أن الحج لا يتمّ بدون الركن، ويصحّ بدون الواجب مع الدم، وأيًّا ما كان المراد فإن هذه الآية متمِّمة لآيـة {ولله على الناس حج البيت} في وجوب الحج على المسلم المستطيع.

ــ ثم تناول الخطاب بعض أحكام الحج قائلا: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ}، الحصر والإحصار: المنع، والمراد منع الحاج أو المعتمر بعد إحرامه من الوصول إلى البيت الحرام لإتمام مناسكه، فإن مُنِع قبل إحرامه فلا شيء عليه، والإحرام يتم بثلاثة أمور مجتمعة: النية ولباس الإحرام والميقات المكاني، وحدد النبي خمسة مواقيت للإحرام، وكلها في الحِلّ خارج حدود الحرم، فوقّت لأَهْلِ الْمَدِينَةِ ذا الْحُلَيْفَةِ، وَلأَهْلِ نَجْدٍ قــَرْن الْمَنَازِلِ، وَلأَهْلِ الشَّامِ الْجُحْفَة، وَلأَهْلِ الْيَمَنِ يَلَمْلَم، ولأهل العراق ذات عرق، ثم قال النبي: “هُــنَّ لَهُنّ وَلِمَنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِ أهلهِنَّ مِمَّنْ أَرَادَ الْحَجَّ أَوْ الْعُمْرَةَ، وَمَنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ فَمِنْ حَيْثُ أَنْشَأَ، حَتَّى أَهْلُ مَكَّةَ مِنْ مَكَّةَ”، أي أن هذه الأماكن هي مواقيت للإحرام لأهلها ولكل من يمرّ بها برّا أو بحرا أو جوّا يريد الحج أو العمرة، ومن كان يسكن ما بين مكة والميقات فإحرامه من مسكنه، وأهل مكة يحرمون للحج من مساكنهم؛ لأنهم يمرون بالحلّ وهم في طريقهم إلى عرفة، ويحرمون للعمرة من مسجد التنعيم؛ لأنه في الحل خارج حدود الحرم.

ــ وجاء الفعل {أُحْصِرْتُمْ} مبنيا للمجهول ليفيد تعدد الموانع التي تمنع المحرم من إتمام مناسكه كالعدوّ والخوف والمرض وفقْد المال، وأنها خارج إرادة المحرم، وأن الحديث عنها ليس مقصودا، لكن المقصود ما يترتب على الحصر من تشريع، فالحصر يبيح للمُحرِم التحلّل، إلا أنه لا يُسقِط عنه الشعيرة، بل يلزمه أداؤها في العام المقبل أو متى استطاع، ففي الحديث “مَنْ كُسر أَوْ عَرِجَ فَقَدْ حَــلَّ، وَعَلَيْهِ الحج من قابل”، ولما مُنِع النبي من إتمام عمرة الحديبية في السنة السادسة أداها في السنة السابعة.

ــ والتَحَلُّل يكون بأمرين: الأول: تقديم هدْي (ذَبْح شاة)، ومَحِلّ الذبح مكان الحصر، وقيل: يرسل المُحْصَر هديه ليُذبَح في الحرم، ويظلّ مُحرِما حتى يُذبَح الهدْيُ، والأول أرجح؛ لأنه أيسر، وهو فِعْل النبي في عمرة الحديبية، ومن رحمة الله أنه قرن حصول الهدي بالتيسير، قال: {فَمَا اسْتَيْسَرَ}؛ ومن ثم فلا هدي مع المشقة؛ لأن الاستطاعة مناط التكليف، فلا تكليف إلا لمستطيع، عملا بقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}، {وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}، والهَدْيُ كالهَدِيَّة لكنه خُصّ بما يُهدَى إِلَى البَيْت الحرام تَقَرُّبًا إلى الله، ويُعفَى من الهدْي المشترط الذي يقول عند إحرامه: اللهم إن حبسني حابس فمحِلِّي حيث حبستني، فقد صحّ ذلك في السُّنة.

ــ والأمر الثاني: حلق الرأس أو تقصيره، ولا يصلح العكس؛ لأن الله يقول: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ}، والحلق أفضل من التقصير للرجال؛ لأن الخطاب خصّه بالذكر، والنبي دعا للمحلقين، ولم يدعُ للمقصرين إلا بعد إلحاحٍ من الصحابة، حيث قال: “رحمَ اللَّهُ المحلِّقينَ، قالوا: والمقصِّرينَ يا رسولَ اللَّهِ، قالَ: رحمَ اللَّهُ المحلِّقينَ، قالوا: والمقصِّرينَ يا رسولَ اللَّهِ، قالَ: رحمَ اللَّهُ المحلِّقينَ، قالوا: والمقصِّرينَ يا رسولَ اللَّهِ قالَ: والمقصِّرين”، وإلحاح الصحابة قد يكون سؤالا أجاب عنه النبي أو دعاءً أمَّــنَ النبي عليه.

ــ ثم بيّن ربنا حكم الحلق الاضطراري، قال: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ}، وهذا الحُكم جاء عقب حكم الحصر، فهل الخطاب هنا خاص بالمحصَرين أم هو عام للمحرمين كافة؟ الأرجح أنه عام؛ لأن حالة الاضطرار قد تصيب أي مُحرِم، والحلق للمحرم كالتسليم للمصلي، يتحلّل به بعد الانتهاء من المناسك إلا إذا اضطُرَّ إليه، وحدد الخطاب حالة الاضطرار بمرض أو أذى في رأسه كجراحة أو حشرات مؤذية له أو مؤذية للآخرين بالعدوى، والإسلام حريص على صحة الفرد وسلامة المجتمع، ففي هذه الحالة يحقّ له الحلق مع الفدية، وعلى هذا فتقدير الخطاب (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فليحلق وعليه فدية)، وجاء التعبير القرآني دقيقا في استخدامه لفظة {فدية} ولم يستخدم لفظة (كفّارة)؛ لأن الكفّارة توبة واستغفار لمن يرتكب محظورا يستوجب إثما كالتراجع في القسَم بالله والفطر المتعمد دون عذر في رمضان، والفدية هي العوض عن العمل الجليل النفيس الذي تعذّر فعله لسبب قهري كمناسك الحج والعمرة، والمُحرِم الذي حلق شعره لمرض أو أذى قبل إتمام مناسكه لم يرتكب محظورا يأثم عليه، إنما هو مضطر إليه، فوجب عليه الفدية لا الكفارة.

ــ والمُحرِم مخيَّر في الفدية بين الصيام والصدقة والنُّسُك، والصيام ثلاثة أيام، والصدقة إطعام ستة مساكين والمراد بالنُّسُك الذبح، وهو جمع نَسِيكة بمعنى الذبيحة ينسكها المُحرِم لله، وتكون من الإبل والبقر والغنم، والذبحُ لله عبادة، والنُّسُك أعلاه بَدَنَة وأوسطه بقرة وأدناه شاة، وحرف العطف لمطلق التخيير ولا يقتضي الترتيب.

ــ ومع أن الخطاب بدأ بالأيسر وهو الصيام فإن النبيّ أوصى بالأفضل وهو النُّسُك؛ لأنه أنفع للمجتمع، والعبادة التي تنفع المجتمع خير من العبادة التي تنفع صاحبها فقط؛ وهنا ندرك مدى حرص النبي على إفادة المجتمع من خلال فقراء الحرم، ومكة كلها حرم، فإن لم يستطع المحرم الذبح فهو مُخيَّر بين الصيام والإطعام المحدود، وفي كلٍّ خير؛ لأن صاحبه يتقرب به إلى الله، وهذا الحُكم يشير إلى عظمة الإسلام التشريعية في مراعاته لقدرات العبد ومصلحة المجتمع، وللحديث بقية.

زر الذهاب إلى الأعلى