مقالات

منديل الهاوية.

بقلم: د. عبدالرحمن موسى
يحكى أن طبيباً نفسياً دخل يوماً ليعود مرضاه في مستشفى المجانين، فرأى رجلاً قد جيء به حديثاً إلى هذا المكان، وهو يرّدد كلمة (منديل) مرّات عديدة، وعند ما بحث هذا الطبيب النفسي عن حاله، واستقصى مرضه العقلي، رأى أنّ السبب في جنون هذا الشخص هو أنّه رأى يوماً في حقيبة زوجته (منديلاً) يحتوى على قنينة عطر وبعض الهدايا المناسبة للرجال، فأساء الظن بزوجته، وتصوّر أنّها على ارتباط برجل أجنبي، فقتلها على الفور بدافعٍ من الغضب الشديد وبدون تحقيق وتمحيص فحص، وبعد أن فتح المنديل رأى في طيّاته ورقة كتب عليها
(هذه هدية منّي إلى زوجي العزيز بذكرى يوم ولادته) وفجأة أصابته وخزة شديدة، وشعر بضربة عنيفة في أعماق روحه، أدّت إلى جنونه، فأصبح كلما يتذكّر هذا المنديل يصرخ ويكرّره على لسانه، فقد أوقعه المنديل في الهاوية، وأفقده أيدي زوجته الحانية.
الحقيقة أنه في كثيرٍ من الأوقات قد تحكمنا مشاعرنا، وتقودنا شكوكنا، وتسيطر علينا ظنوننا، فنخطئ الحكم، و نسيء الفهم، ونتخيل مالا يوجد، ونتجاهل ما قد يُحتمل، فيتكدر الحال وتشتد الأقوال، وتنتابنا الهموم، وتتراقص أمامنا الغموم، ونفقد الصواب، ونسيء الخطاب، وننسى قول رب الأرباب (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ)
وسوء الظن يشوه العقل الحكيم ويصغره، يغطى صفحة القلب السليم ويعكره، يفسد حلاوة اللسان الجميل ويمرره، ويبعد الصفح الجميل ويؤخره، وهو يفضي إلى إيجاد الخلل والارتباك، ويورث الألم والإنهاك، ويزرع في القلب بذور الشك والأشواك، ويُذهِب الحُلم والأناة والإدراك.
منديل الهاوية ناتجٌ عن سوء الظن وهو قسمان:
سوء الظن العملي: وهو سوء الظن الذي يتجسّد في أفعال الشخص وكلماته وأقواله، وهذا النوع من سوء الظن هو المحرّم شرعًا والذي يترتّب عليه العقاب.
سوء الظن النفسي: وهو سوء الظن الذي لا يترتّب عليه أثر خارجي لأنه خارج تماماً عن دائرة اختيار الإنسان وإرادته، ولا يمكن إزالته بشتى الوسائل كالذي يقفز إلى ذهن الإنسان بدون اختيار منه.
‏‏‏وعلاج سوء الظن هو:
التعود على حُسن الظن، والأمانة في التعامل، وترك القيل والقال فأطباع الإنس متغيرة ومتبدلة، وأحياناً تكون متحجرةً ومتبلدة.
ولو نظرنا لأحوال الناس لوجدنا أنها على أصناف منها على سبيل المثال لا الحصر:
بعض الناس أنت بالنسبة إليهم (هدف) فإن وصلوك تركوك وملّوك.
وبعضهم أنت بالنسبة إليهم (مصلحة) فإن قضوها نسوك أو تناسوك.
وبعضهم أنت بالنسبة إليهم (ضـــوء) فإن اقتربوا منك أتعبوك وأطفئوك.
وبعضهم أنت بالنسبة إليهم (نــــزوة) فإن شبعوا منك دفعوك وفارقوك.
وبعضهم أنت بالنسبة إليهم (متــــاح) فإن وجدوك ساروا معك، وإن رأوا غيرك بدّلوك.
وبعضهم أنت بالنسبة إليهم (قــدوة) فإن عرفوك تلمسوا طريقك وأيّدوك.
وبعضهم أنت بالنسبة إليهم (عـزوة) فإن أحبوك نسوا الدنيا وقربوك.
وبعضهم أنت بالنسبة إليهٍم (ســــند) فإن رأُوك في كل أمورهم أشركوك.
وبعضهم أنت بالنسبة إليهٍم (أمــــل) فإن عاشروك عرفوا قيمتك وقدّروك.
وبعضهم أنت بالنسبة إليهٍم (سعادة) ففي كل قولٍ أو فعلٍ منك أحبوك.
والصحيح ألا نقف كثيراً أم هذه التصنيفات، وألا نتمادى في سردها، وأن نشرَع في الطريق بهمّة وعزم لندْرِك مَرَامَينا، ونبلغ أقصى مساعينا.
وأن ننمي أفكارنا ونقوي علاقاتنا، ونفلت القلوب المتقلبة، ونتمسك بالقلوب المتمسكة، وألا نلوم أنفسنا على خير فعلناه، بل نندم على سوءٍ اقترفناه، ونترك لكل شخصٍ حرية فعله فكلٌ أدرى بحاله وأعلم بأفعاله، وندعو الله دائماً أن يتولى قلوبنا ويحفظها من الذين يسرقون بهجتنا، ويعكرون صفونا، ويخونون حبّنا.
وأن يجعلنا ممن مهّدوا الطُرُقات، واغتنموا الأوقات، فسُبل المجد لم تكن يومًا ذليلة، وتمهيد الطرق لم تكن يوماً ميسّرة.

زر الذهاب إلى الأعلى