الأدب والشعر

«عيادة الطب النفسي » قصة قصيرة

بقلم #سمير_لوبه

ذات ليلةٍ أتوجهُ لإحدى عياداتِ الطبِ النفسي في إحدى البناياتِ الكلاسيكيةِ العريقةِ في الشارعِ المتفرعِ من شارعِ ” السلطان حسين ” المقابلِ للمستشفى الأميري ” كلية الطب جامعة الإسكندرية ” وما إن دخلت إلى الشارعِ الذي يخلو من المارةِ فإذا بلافتةٍ لعيادةِ طبٍ نفسي ، دخلت إلى البنايةِ العريقةِ وفي الطابقِ الأولِ إذا بالبابِ مفتوحٌ والعيادةُ خاليةٌ من المرضى ، بخطواتٍ متثاقلةٍ أتوجهُ للجلوسِ على إحدى الكراسي ، وفجأةً ينقطعُ التيارُ ، تلمحُ عيناي في الردهةِ المظلمةِ التي تقابلُني عودَ ثقابٍ يشتعلُ فجأةً ليضئ شمعةً لينبعث ضوؤها الهزيلُ ، فإذا به الممرضُ يرشقُني بعينين جاحظتين زائغتين و في إحدى يديه عودُ ثقابٍ وبالأخرى يُمسكُ الشمعةَ ، يخرجُ من جوفِ الردهةِ ، يقتربُ مني يتركُ عودَ الثقابِ المنطفئ على المنضدةِ أمامي ، ومن خلالِ ضوءِ الشمعةِ الهزيلِ ألمحُ على العودِ آثارَ دماءٍ ، أنظرُ للرجلِ بقلقٍ :- مساءُ الخيرِ – مساءُ النورِ- يتجهُ صوبَ مكتبهِ يثبتُ الشمعةَ أمامَه ، يجلسُ ، تتبعُه عيناي فتبدو ملامحُه مخيفةٌ ، صمتٌ يطبقُ على العيادةِ ، فجأةً صوتُ البابِ يتحركُ ينتفضُ مذعوراً ليغلقَه ، ألاحظُ آثارَ دماءٍ على كفيه ، وما إن انتبه لنظراتي حتى جحظت عيناه وأطبق كفيه ، تخامرُني الظنونُ ربَّما خرج من عندِ الطبيبِ ودماءُ جراحةِ مريضٍ على يديه ، ولكن ما علاقةُ الطبُ النفسي بالجراحةِ ؟!! أسألُه – ألسنا في عيادةٍ للطبِ النفسي ؟! – نعمْ وما إن ألقيت بناظري على المنضدةِ أمامي ؛ أتفحصُ بهما عودَ الثقابِ ، فإذا به ينتفضُ مرةً أخرى وقد تعلقت عيناه الجاحظتان بعودِ الثقابِ ؛ يلتقطُه بيدٍ مرتعشةٍ ، وبسرعةٍ خاطفةٍ يتوجهُ إلى الردهةِ المظلمةِ ، صوتُ مياهٍ تنسابُ ، يخرجُ من الظلامِ فجأةً لا أشعرُ بوقعِ أقدامِه ، يجلسُ إلى مكتبِه يقضمُ أظافرَه ؛ يصيبُني الاضطرابُ ، أعودُ لأسألَه – هل الطبيبُ موجودٌ ؟ يجيبُني بصوتٍ هامسٍ مضطربٍ- ربَّما يتأخرُ قليلاً .. لا تقلقْ – أرى العيادةَ خاليةً ؛ قلَّما يلجأ الناسُ للطبيبِ النفسي – أبداً قد يأتي أحدُهم للعلاجِ الطوعي في العيادةِ وفي كثيرٍ من الحالاتِ يُسمح بالعلاجِ النفسي غيرِ الطوعي عندما يوجدُ خطرٌ على المريضِ أو غيرِه من المحيطين به ؛ فيتمُّ العلاجُ بُناءً على توصياتِ الطبيبِ المُعالجِ دونَ اشتراطِ موافقةٍ من المريضِ بعد أن توصي المحكمةُ بإيداعِ المريضِ مستشفى الأمراضِ النفسيةِ والعصبيةِ- وما دخلُ المحاكمِ في العلاجِ النفسي ؟ أليست المحاكمُ للنزاعاتِ القانونيةِ ؟ – وفي بعضِ الأحيانِ يتمُّ تحويلُ متهمٍ ليكونَ تحتَ متابعةِ طبيبٍ نفسي – وما الذي يدفعُ المحاكمُ لهذا ؟ – أحياناً يكون القاتلُ مريضاً نفسياً ، قد يقدم على جريمةٍ دمويةٍ بشعةٍ- قاتلٌ ؟!!!!- نعمْ . جرائمُ النفسِ غالباً ما يرتكبُها مختلٌ عقلي تحتَ تأثيرِ هياجٍ مرضي ؛ فيقتلَ ويمثلَ بالجثةِ أيضاً ، يتلذذُ بدماءِ ضحيتِه غيرُ مدركٍ لما يبدرُ منه يقشعرُ بدني لكلماتِ الممرضِ ؛ أسألُه مدهوشاً – وهل يعملُ طبيبُنا مع مثلِ تلك الحالاتِ ؟! يبدو على قسماتِ وجهِه الاضطرابُ ، تتلجلجُ على لسانِه الكلماتُ ، يخفضُ صوتَه وكأنَّه يهمسُ لي فلا يسمعُه أحدٌ رُغمَ خُلوِ العيادةِ إلَّا مني ومنه – طبيبُنا ذائعُ الصيتِ في العلاجِ غيرِ الطوعي و للحالاتِ التي تمثلُ خطراً على نفسِها وعلى المحيطين بها – وهل يقابلُهم هنا ؟! – لا طبعاً .. هؤلاء نزلاءٌ في المستشفى ؛ لا يخرجون إلا بتمامِ الشفاءِ- وهل يتمُّ إدانتُهم بعدَ الشفاءِ ؟! فجأةً تجحظُ عيناه ، وقدْ عقد ما بين حاجبيه ، يفركُ كفيه وبصوتٍ عالٍ مرتعشٍ : – كيف تدينُه المحكمةُ ، وقدْ ارتكب جريمتَه تحتَ تأثيرِ مرضِه النفسي !!يعتريني القلقُ الممزوجُ بالريبةِ ، أبادرُه بثباتٍ مصطنعٍ :- مجردُ سؤالٍ لا غيرَ – انتبه لكلماتِك من فضلِك – الطبيبُ قدْ تأخر ينتفضُ واقفاً ، تجحظُ عيناه المذعورتان اللامعتان ، وقدْ بسط راحتي يدِه على سطحِ المكتبِ يرشقني بنظراتٍ حادةٍ : – ألَّا تصبرُ قليلاً .. قلت لحضرتِك قد يأتي بين لحظةٍ وأخرى يسودُ الصمتُ فجأةً ، يخترق أسماعي صوتُ البابِ ، يسرعُ الممرضُ صوبَ البابِ يغلقُه بعنفٍ ، و يلتفت لي بعينين متحجرتين ، ويتجهُ صوبَ الردهةِ يبتلعُه ظلامُها الدامسِ ؛ يتملكُني الخوفُ ، هممت بالانصرافِ ، وما إن اقتربت من بابِ العيادةِ فإذا بيدٍ تتشبثُ بكتفي ، أستديرُ مذعوراً لأجدَ وجهَه يكادُ يلاصقُ وجهي ، وقدْ برزت أسنانُه جراءَ ابتسامتِه الجامدةِ وبصوتٍ مرتعشٍ يقتربُ مني يهمسُ في أذني تفوحُ منه رائحةُ الدمِ – إلى أين ؟!أجيبُه مضطرباً – الوقتُ قدْ تأخر ، ولم يحضرْ الطبيبُ بعدْيتأبطُ ذراعي يطبقُ عليه بشدةٍ ، أشعرُ ببرودةٍ شديدةٍ تنبعثُ من جسدِه ، يقولُ لي :- الطبيبُ على وصولٍ ؛ تستطيعُ انتظارَه داخلَ حجرتِه يصحبُني إلى حجرةِ الطبيبِ ، يعتريني الهلعُ ، فإذا بالظلامِ الدامسِ يغرقُ الحجرةِ ، يشعلُ عودَ ثقابٍ ويطلبُ مني أن أتمددَ على الكرسي ، وبصوتٍ مرتعشٍ يغلفُه التوترُ : – سأحضرُ الشمعةَ أجيبُه بابتسامةٍ باهتةٍ ، ترتعشُ شفتاي ، يرتعدُ جسدي ، يخرجُ من الحجرةِ في تروٍ لا أسمعُ له وقعَ أقدامٍ ، حاولت السيطرةَ على نفسي حتى يصلَ الطبيبُ أو يعودَ التيارُ الكهربائي اللعينُ ، نادمٌ أشدُ الندمِ على حضوري هنا ، فإذا بأنفاسٍ باردةٍ بجواري ، أحاولُ النهوضَ ، فإذا بذراعٍ تبسطُ كفَها الباردَ على صدري تمنعُني ، أدفعُها مفزوعاً ، فإذا بالدماءِ تلطخُ كفي ، أسرعُ إلى البابِ أفتحُه ، لأجدَ الدماءَ قدْ اختفت ، والرجلُ أمامي تتناثرُ الدماءُ على وجهِه ، يمسكُ الشمعةَ بيدٍ وبالأخرى سكيناً تقطرُ دماً ؛ أزجُه برعبٍ ، وبسرعةِ البرقِ أندفعُ لخارجِ العيادةِ ، أطيرُ على السُلمِ فزعاً ، أصطدمُ بشخصٍ ما في بهوِ العمارةِ ، يتصببُ جبيني عرقاً ، تتسارعُ نبضاتُ قلبي ، وما إن مدَّ يدَه إليَّ حتى عاد التيارُ الكهربائي فجأةً ، يربتُ على كتفي قائلاً :- اهدأ .. ها قد عاد التيارُ .. هل يفزعُك الظلامُ إلى هذه الدرجةِ ؟!! بصوتٍ مرتعشٍ وجسدٍ يرتعدُ ، يكادُ قلبي يتوقفُ من الفزعِ ، أشيرُ بيدي إلى السُلمِ – العيادةُ .. العيادةُ – العيادةُ مغلقةٌ بالشمعِ الأحمرِ منذ ذبحِ الممرضِ للطبيب وانتحارِه داخلَ العيادةِ

زر الذهاب إلى الأعلى