مقالات

للاستاذ الدكتور علاء الحمزاوي الاستاذ بجامعة المنيا

للاستاذ الدكتور علاء الحمزاوي الاستاذ بجامعة المنيا

التسلسل التاريخي لقصة إبراهيم(4)

للاستاذ الدكتور علاء الحمزاوي الاستاذ بجامعة المنيا

متابعة/ ناصف ناصف

بعد ما نجح سيدنا إبراهيم أن يزعزع فكرهم في معبوداتهم ولم يؤمنوا قرر أن يكسّر أصنامهم في غيابهم، فلم يخرج معهم في احتفالهم بعيد النيروز قائلا لهم: {تَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ}، أي أقسم بالله لأدبرن شيئا للأصنام تكرهونه، والأرجح أنه قال ذلك بصوت منخفض بين الجهر والسر بعد أن ولَّـــوا ظهورهم له، فلم يسمعه إلا قلة منهم كانوا بالقرب منه، فلم يأخذوا كلامهم بجدية، وهم الذين قالوا لاحقا: {سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ}، ونستنبط من موقف إبراهيم وجوب الجهر بالحق لكن بطريقة تُيسِّر تحقيقه، وبعد ما انطلقوا للاحتفال ذهب إبراهيم إلى المعبد فوجد الأصنام أمامها طعام كثير، فخاطبها ساخرا {فقال أَلَا تَأْكُلُونَ مَا لَكُمْ لَا تَنطِقُونَ فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ}، راغ: مال، والمعنى: أسرع برغبة شديدة في تكسيرها، واستعمل يده اليمنى؛ لأنها أقوى من اليد اليسرى، كسَّرها جميعا إلا كبيرها عـلَّـق الفأس في رقبته ليسألوه؛ فيكون حُجّة عليهم، قال تعالى: {فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ}، الجَـذُّ هو القطع، و{جُذاذا}: فُتاتا، أي جعلها قِطَعًا صغيرة، وقرئ بالكسر {جِذاذا} جمع (جذيذ) بمعنى هشيم وكسير، أي جعلها مهشَّمة مكسَّرة، وخاطب إبراهيم الأصنام بضمير العقلاء {تأكلون، تنطقون، جعلهم} جريا على اعتقادهم الفاسد سخريةً واستهزاءً بهم، فلما رجعوا ورأوا الأصنام مكسّرة جُــنّ جنونهم، وأخذوا يتساءلون، {قَالُوا مَن فَعَلَ هَٰذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ} فأجابهم الذين سمعوا تهديده للأصنام {قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} فـردَّ كبراؤهم {قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَىٰ أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ}، فجاءوا به، وجرى بينهم حوار قصير نجح فيه إبراهيم أن يزعزع فكرهم في معبوداتهم، {قَالُوا أَأَنتَ فَعَلْتَ هَٰذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَٰذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ فَرَجَعُوا إِلَىٰ أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّالِمُونَ} قــوة وجرأة أدبية من سيدنا إبراهيم في إحقاق الحق، جعلهم يقرُّون بأنهم ظالمون لأنفسهم، لكن ذلك الإقــرار لم يستمر، فسرعان ما تحوّلوا إلى الجحود والعناد، وهو معنى {ثُمَّ نُكِسُوا عَلَىٰ رُءُوسِهِمْ}، فأنكروا على إبراهيم كلامه، قالوا له: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَٰؤُلَاءِ يَنطِقُونَ}، وأيقنوا أنه الفاعل لذلك، فواجههم إبراهيم بحقيقة معبوداتهم، {قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ}، فحكموا عليه بالإعدام حرقا {قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين}، فأودعوه السجن تمهيدا لإعدامه، وفي هذا الحوار تظهر الكذبة الثانية في قوله: {بل فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ}، والتفسير بأن إبراهيم قال هذه المقولة على سبيل السخرية والاستهزاء يخرجها عن الكذب، وهذا أقرب للقبول بدليل أن الكفار أيقنوا أن إبراهيم هو الذي كسّر الأصنام، وهو في السجن استدعاه النمرود مرتين.

ــ في المرة الأولى جادله في ربه وقدرته على الإحياء والإماتة، وقد ذكرها القرآن في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}، المحاجّة المجادلة والمخاصمة، ويبدو أن النمرود سأل إبراهيم: من ربك؟ فقال: ربي الذي يحيي ويميت، وعبر بالفعل المضارع للدلالة على الاستمرار والتجدد، وقدّم الإحياء على الإماتة؛ لأن الله أوجد الخلق من العدم، وأن الموت سابق للحياة وفقا لقوله تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ}، فادّعى النمرود الإحياء والإماتة، فأتى برجلين: أحدهما بريء والآخر مذنب محكوم عليه بالإعدام، فقتل البريء وعفا عن المذنب، فارتكب ظلما شديدا بحماقته، فقهره إبراهيم بأن طلب منه طلوع الشمس من الغرب، فظهر عجزه التام ببُهت شديد أي بدهشة وحيرة تكذِّب الحـق؛ لذا قال ربنا: {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}، وأصعب الظلم الشرك.

ــ وفي المرة الثانية سأله عن كيفية إحياء الموتى، فخاطب إبراهيم ربه {ربِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}، وصنع إبراهيم ذلك أملا في إيمان النمرود، لذا فسؤال ربنا {أو لم تؤمن} ليس استنكارا إنما أراد منه أن يستنطق إبراهيم بالإيمان، وفي ذلك إباحة للمؤمن أن يسأل ويفكر ويتدبر في كل ما يتعلق بقدرة الله وحكمته ليزداد إيمانا وليدعو الآخرين إلى الإيمان، فأمر الله إبراهيم أن يأتي بأربعة طيور مختلفة، فيذبحها ويقطعها، ثم يضع على كل جبل جزءا من كل طائر، ويُبقي رؤوسها معه؛ لأن الفعل {فصرهنّ إليك} بضم الصاد وكسرها يحمل معنى التقطيع مع الاحتفاظ بالمقطَّع، ثم أمره أن يناديها، ففعل فأتى كل جزء إلى رأسه ساعيا لا طائرا، مع أن السعي من خصائص البشر، وهو المشي بقوة وسرعة، وهذا معناه أن الله أعطى للطير صفة من صفات الإنسان، وفي ذلك بيان لقدرة الله، والقصة كلها مثال جليّ في قدرة الله على الإحياء وعدم اختلاط الأجساد، فهو المستحق للعبادة، ومن قدرته أن منح إبراهيم ميزة استجابة الطير له، وللحديث بقية.التسلسل التاريخي لقصة إبراهيم(4)

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى