مقالات

قــراءة في آيات الحج والعمرة 6

للاستاذ الدكتورعلاءااحمزاوى بجامعة المنيا

متابعة ناصف ناصف
ــ مازلنا مع قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ}، هذا الخطاب رخصة للحجاج أن يتربحوا من المال الحلال بالوسائل المشروعة أثناء أداء المناسك بشرط ألا يشغلهم ذلك عن ذكر الله ولاسيما في عرفات والمشعر الحرام وفي الطريق بينهما، والمشعر الحرام هو المزدلفة كلها على الأرجح أو هو مكان مسجد مزدلفة، ومعنى مشعر: منسك من المناسك المكانية للحج، فالمزدلفة وعرفة ومنى مشاعر، ووُصِف المشعر بـ{الحرام}؛ لأنه من أرض الحرم، وسُمّي المزدلفة من الازدلاف وهو الاقتراب؛ لأن الحجاج يزدلفون إليها من عرفات ليبيتوا بها قاصدين الاقتراب من مشعر منى، ويسمَّى «جَمْع» لاجتماع الناس فيه ويجمعون فيه بين صلاتي المغرب والعشاء جمع تأخير، والمبيت بالمزدلفة حتى صلاة الفجر واجب على الأرجح، وتركه يوجب دما، ويجوز مغادرتها قبل الفجر اضطرارا، والمراد من الخطاب هنا الحث على الذكر بالتلبية والتهليل والدعاء؛ لأن ذكر الله في تلك المواطن يرفع الدرجات ويحطّ الخطايا.
ــ ثم حدد ربنا نوع الذكر وحجمه، فقال تعالى:{وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ}، أي اذكروا الله ذكرا كثيرا يعادل نعمة الهداية، فبها خرجتم من الظلمات إلى النور، فيجب عليكم أن تكثروا من ذكر الله والثناء عليه شكرا لله على نعمتي الهداية والتوفيق للحح، ثم ذكّرهم الله بفضله عليهم بأن أخرجهم من ظلمات الضلال إلى نور الإيمان، فقال لهم: {وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ}، وهذا التذكير أدعى إلى المزيد من الذكر والشكر والثناء على الله.
ــ واستمر القرآن في توجيهاته الكريمة للحُجّاج فقال لهم: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ}، {ثُـمَّ} للعطف مع التراخي، والأصل في العطف أن يقتضي المغايرة، وعليه فالمراد بالإفاضة هنا الانتقال من مزدلفة إلى منى صباح يوم النحر، فيصير في الحج إفاضتان: إفاضة من عرفة إلى مزدلفة مساء يوم عرفة، ثم إفاضة من مزدلفة إلى منى صباح يوم النحر، ويحتمل أن الإفاضة المقصودة هي الإفاضة من عرفات، وأن المغايرة في نوع المخاطَب، فقيل: المراد بالخطاب قريش وحلفاؤها؛ حيث كانوا يترفعون على الناس، فلا يقفون معهم على عرفات، وإنما يقفون وحدهم بالمزدلفة، وكانوا يقولون: نحن سُكّان الحرم نعظِّم المزدلفة ولا نعظِّم عرفة؛ لأنه في الحلِّ أي خارج حدود الحرم، فبيّن الله للمسلمين أن الإفاضة تكون من عرفات، فقال لهم: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عرفات}، ثم أمر الله قريشا أن يفيضوا كالناس من عرفات، وقيل: الخطاب لجميع الحجاج، أمرهم الله أن يفيضوا من حيث أفاض سائر العرب من عرفة إلى مزدلفة، وقيل: المراد بـ{الناس} إبراهيم وإسماعيل، فكانت إفاضتهما من عرفة لا من المزدلفة، والتعبير عنهما بـ{الناس} جائز لغويا، وكل الآراء مقبولة؛ لأن ظاهر الخطاب العموم، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
ــ ثم أمرهم الله بالاستغفار، فقال تعالى: {وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}، أي استغفروا الله مما سلف من ذنوبكم، فالاستغفار توبة وشكر إلى الله، والموقف موقف توبة وتضرع إلى الله وهو مناسب لفضل الله على الحجاج بأن الحج يمحو ما قد سلف، والله كثير الغفران واسع الرحمة؛ ما يستوجب على الحاج الاستغفار، ويحتمل أن الأمر موجَّه لقريش ليستغفروا الله ويتوبوا إليه من تركهم الوقوف بعرفة، والتفسير الأول أرجح، ولا مانع من الجمع بينهما، فكل الحجاج بحاجة إلى الاستغفار.
ــ ومن تمام أعمال الحج ذكر الله بعد أداء المناسك، قال تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا} والمناسك جمع منسك، وهي شعائر الحج، وهذا التوجيه الإلهي جاء ردا على تصرفات المشركين في الحج؛ حيث كانوا بعد فراغهم من عبادات الحج يتفاخرون بفضائل آبائهم من إطعام الطعام وتحمل الديات ومساعدة المحتاج وغير ذلك، فالآية تأمر الحُجّاج بذكر الله مثل ذكرهم آباءهم بل أكثر ذكرا، فهو أحق به؛ لأن ذكر مفاخر الآباء إن كان كذبا أدى إلى الخزي في الدنيا والعقوبة في الآخرة، وإن كان صدقا فإنه في الغالب يؤدى إلى العُجْب والغرور، أما ذكر الله بإخلاص وخشوع فثوابه عظيم، وإذا كان الأب هو سبب وجود الإنسان فالله هو خالقهما، فهو أولى وأحق بالذكر والشكر، ويحتمل أن الذكر المراد هنا التكبير عند رمي الجمار، لكن إطلاق الذكر أرجح، ونلحظ أن ذكر الله هو العبادة المشتركة بين كل عبادات الحج مما يدل على أن الهدف الأسمى من أي عبادة هو ذكر الله، بل هو أعظم عبادة يتقرب بها المؤمن إلى الله، وللحديث بقية.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى