ثقافةمرأة ومنوعاتمقالات

تأملات فى خطة الهجرة

كتب / د. عبد الرحمن نصار

لم تكن هجرة خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة والتى تبلغ مسافتها (٤١٠)كيلومتراً عملاً مفاجئاً أو طارئاً تحت تأثير الضغط الرهيب من قريش ،وإنما كانت عملاً معلوماً من أول ليلة أوتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها النبوة. والدليل قول ورقة بن نوفل (ليتنى أكون جذعاً إذ يخرجك قومك فأنصرك نصراً مؤزراً ،قال :أومخرجى هم ؟قال :نعم ،ما جاء أحد بمثل ما جئت به إلا عودى وأخرج ).والنص يفيد أنه صلى الله عليه وسلم لم ينفرد بالهجرة وحده دون النبيين عليهم جميعا الصلاة والسلام ،وإنما سبقوه إلى الهجرة ، وفى القرآن الكريم نصوص تشير إلى هجرة أنبياء بأعيانهم ،وفيه كذلك نص جامع يشير إلى تهديد سائر الأقوام لأنبيائهم بإخراجهم من مواطنهم وهو قوله سبحانه ((وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن فى ملتنا ))

وبما أن الهجرة كانت معلومة لديه من أول ليلة ،وبما أنه سُبق إليها ،وبما أنه لم يكن ثمة مفر منها ،فإن ذلك يقتضي معرفة الجهة ،وهو ما وقع فعلاً ،حتى إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصف موضع الهجرة وصفا دقيقاً حتى من الناحية الجغرافية قبل نزوله فيها ووصوله إليها

ولابد من خطة يلزمها أن تكون محكمة وسرية حتى على أقرب الناس إليه ،ولم يعلن رسول الله صلى الله تفاصيل خطته لأحد حتى لصاحبه فى الهجرة رضى الله عنه ،كل ما كان يخرج على لسانه له ((لا تعجل لعل الله يجعل لك صاحباً)).وعليه نفهم أن كتمان بعض الأمور هو الفيصل فى نجاحها ومضى خطواتها.وجاء توجيهاً فى مثل هذا الشأن قوله عليه الصلاة والسلام ((استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان )

والكتمان لا يتصل بجزء من العمل دون جزء ،بل يقتضي النجاح سريان الكتمان فى كل التفاصيل وفى تفاصيل الهجرة سنجد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اتخذ دليلاً غير مسلم فى الهجرة وهو عبدالله بن أريقط،وقد يقول الكاتبون والمحللون فى تعليل ذلك :فعل رسول الله صلى الله ذلك بياناً لجواز الاستعانة بغير المسلم فى بعض الأعمال ،وهو كلام لا غبار عليه ، ولكن أحسن منه أن يقال :إن قريشاً جُن جنونها لما عرفت بهجرته صلى الله عليه وسلم ،ففعلت ما لم يكن من أخلاقها لدرجةٍ أنها اقتحمت الدور كما فعلت مع على رضى الله عنه وضربته استنطاقاً له ، وكما فعلت مع أسماء رضى الله عنها وضربوها استجواباً لها عن وجهة الهجرة ،ولم يعد خافياً أن كل مسلم فى مكة لحظتئذ كان محلاً للمراقبة والاستجواب ،وعليه فإن خروج مسلم بعدهم بثلاث ليالٍ ومعه رواحل زيادة عن حاجته وعليها أحمال من الطعام والشراب ،أمر يثير الشبهة فيه والريبة منه ،وسيؤدي هذا قطعاً إلى إفشال مهمته ،لكن خروج كافر من بين الكافرين أمر لا يثير شكوكاً ولا ريبة ،وسيقول الناس ساعتها إنه رجل خرج على هذه الصفة طالباً للفوز بالجائزة الكبيرة التى رصدتها قريش لمن يأتيها برسول الله حياً أو ميتاً .ونبأ ابن أريقط ومن يفعل فعله فى تلك الأثناء كنبأ سواقة ومن أتى مثل عمله فى تلك الأثناء والأرجاء.وعليه فإن اختيار كافر لهذا العمل كان مقصودا لذاته ،إنجاحاً للعمل وزيادة فى إحكام الخطة

ومما يتعلق بخطة الهجرة أيضاً المؤاخاة بين الأوس والخزرج من جهة والمهاجرين والأنصار من جهة .لماذا؟لاعتبارات جيوسياسية وجيواستراتيجية.وبيان ذلك هو أن المدينة المنورة على ساكنها الصلاة والسلام كانت تشتمل على أربعة كانتونات أو ما نستطيع تسميته بلغة عصرنا كومباوند ،فى واحد بنو قريظة وفى الثاني بنوالنضير وفى الثالث بنو قينقاع وفى الرابع المنافقون ،وكانت خطة هؤلاء إنشاء توازن الضعف وتوازن الرعب والردع بين سكان يثرب قبل أن يتغير اسمها إلى المدينة ،ولذا أشعلوا الحرب بين الطائفتين إضعافاً لهم من جهة وضماناً لتفوقهم من جهة ،وضماناً لرواج تجارة السلاح التي برعوا فيها من جهة ثالثة .وعليه كلما أوشكت الحرب أن تضع أوزارها أوقدوا جذوتها وأطلقوا شرارتها

وهو الأمر الذى كان يدركه رسول الله صلى الله ،ولذا كانت المؤاخاة تأميناً للجبهة الداخلية للدولة الناشئة من ناحية ،وإضعافًاً لتأثير اليهود والمنافقين من ناحية أخرى .وهو الأمر الذى انتبهت له اليهود أيضاً فعملوا على تجديد النزاع والتذكير بأسبابه ودواعيه ما وجدوا لذلك فرصة ،وقد نجحوا فى ذلك مرة حمل فيها الأوس والخزرج السلاح على بعضهم بعد تذكيرهم بيوم بُعاث .مما حمل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يقول لهم ((أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم))؟وماهو إلا أن استفاق الفريقان فعادوا يتعانقان ويأسفان على ما كان .فكانت المؤاخاة تأمينا للجبهة الداخلية أولاً وثانياً وثالثاً،وليس للمعاونة المالية كما يتصور البعض ،والشاهد على ما نقول وخطأ وجهة النظر المقابلة هو أنه وجد بأعرف وأشهر مكان بالمدينة على جدران المسجد النبوى ما يسمى ببيوت أهل الصفة ،وهم الفقراء وظلت هذه البيوت موجودة وقائمة حتى بعد انتقال النبى صلى الله عليه وسلم إلى جوار ربه.

وكان من أشهر سكانها أبو هريرة رضي الله عنه ،والذى أسلم على الأرجح فى نهاية العام السادس للهجرة ،إن لم يكن بعد ذلك…فادعاء أن المؤاخاة كانت بغرض المعاونة المالية ادعاء لا يستقيم ولا يصح أن يقف بمحاذاة تأمين الجبهة الداخلية للمدينة المنورة خاصة وأنها القرية التى ستأكل القرى كما جاء فى الحديث الشريف.بمعنى أن الناس ستتوافد عليها وستفرغ بعض القرى من بعض أهلها ويستبدلون مواطنهم بالمدينة المنورة.أو أن المقصود بالحديث هو أن جيوش الإسلام ستخرج منها فاتحة ومنتصرة ،مما سيغير من طبيعة التركيبة السكانية لها وللقرى التى ستفتح من بعد.فكلمة المدينة سارية ورايتها مرفوعة على ما سواها من القرى

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى